
"إن الملايين ممن ينوون الهجرة يكونون قد هاجروا نفسياً لحظة تقديم الطلب وهجروا الوطن على المستوى الشعوري. ويظل حالهم على هذا، حتى لو ظلوا سنوات ينتظرون الإشارة بالرحيل. فتكون النتيجة الفعلية أننا نعيش في بلد فيه الملايين من المهاجرين بالنية أو الذين رحلوا من هنا بأرواحهم... و لا تزال أبدانهم تتحرك وسط الجموع كأنها أبدان الموتى الذين فقدوا أرواحهم ،ولم يبق لديهم إلا الحلم الباهت بالرحيل النهائي." (د.يوسف زيدان)
لا أعلم إن كنت سأضيف شيئاً على ما قاله د. زيدان، فقد اختصر بما قاله حال الملايين، الملايين ممن لم تكن لهم صفة معروفة. فالهجرة عادة إما أن تكون اختياراً، وإما قسراً. ولكن الباقين، ما صفتهم؟ ما هي تسميتهم!! هذه الجموع المتكدسة من البحر إلى البحر.. الجموع التي تبقى معلقة بين السماء والأرض وهي في الدنيا، ولم تفارق أرواحها الأبدان بعد!
نعم،، هم مهاجرون بالنية، مهاجرون بالأمل المستحيل،، مهاجرون بالخيال الذي ما استخدموه يوماً إلا للهروب ولا شي غير الهروب. وتبقى الأبدان التي حُمّلت بالخطايا والتبلّد والفوضى.
مهاجرون بالنية،، ليسو هنا،، ولا هناك،، ليسوا مع أحلامهم، ولا مع واقعهم،، تتملكهم رغبة عارمة بالحياة،، الحياة التي سمعوا عنها كثيراً وما عرفوا منها إلا الاسم.
ألسنا جميعاً مهاجرون،، مهاجرون من واقع إلى واقع أفضل منه، ومن حلم إلى حلم أكبر منه. ليست الهجرة إذاً ورقة تسمح لي أن أعبر الحدود إلى الشمال.. وإنما هي ورقة في داخلنا أكثر قوةً من أوراق السفارات كلها. ورقة تجعلنا نرغب في إكمال المسير إلى الحلم، إلى المستحيل.
وما هو الحلم؟ ما هي تلك الرغبة الحارقة لشيء متخيّلٍ نكون نحن أبطال فصوله؟ أن ننقل هذه القصة إلى واقعنا الملموس. وإن تحقق هذا الحلم، هل سيكون بنفس جمال الحلم المتخيّل؟. أم أن الحلم يبقى أجمل وهو حلم!! فإن تحقق أصبح عبئاً على صاحبه. صاحبه الذي يعيش صراعاً في أن يبقي هذا الواقع شبيهاً بما تخيل،، فيفشل في غالب الأحيان! أم أن الأحلام هي التي تساعدنا على إكمال الحياة،، إذاً، إن تحققت كل أحلامنا كيف سنعيش؟!
ما يثير ضحكي حد الغثيان،، ملايين،، أو لعلها آلاف أخرى،، لم يسمّها د. زيدان،، وهي الآلاف التي لا تعرف للأحلام عنواناً،، أو بالأحرى لا تعرف الأحلام أصلاً لتسأل عن عنوانها.. حاولت أن أفهم،، أن يستوعب عقلي المنهك من كل شيء عدا الشعر، كيف يعيش هؤلاء، كيف يستحملون المسير إلى النهاية،، وكيف ينظرون إلى وجوههم في المرآة كل صباح فيتعرفون عليها!! ويفرقون بينها وبين أي شيء أخر،، كفرشاة الأسنان أو المنشفة أو حتى الصابون،، فهم وأدوات الحمام متشابهون في النوع -الجماد- غير أن الثانية أكثر فائدة،، ولها رائحة زكية تنشر التفاؤل المؤقت..
إذا،، هل نحن مهاجرون بالنية؟ هل أنا مهاجرة بالنية! النية المبيتة! ربما كنت كذلك،، ولكن ورقتي تبقى في داخلي،، ولا انتظرها عند باب أحد،، وآمل ألّا تنتقل هذه الورقة إلى الواقع الملموس على جواز سفر يحملني يوماً إلى الشمال..