الخميس، ديسمبر 08، 2011

بركان روح.. قصة قصيرة (ربما)


نَظَرَت من النافذة علّها تجد بصيص أمل. كانت تنظر إلى السيارات المسرعة، والشوارع التي بهت لونها، والمارّين أصحاب الملامح الهادئة، بالرغم من أنهم يلعنون الشمس في قلوبهم. لم يختلف هذا المشهد يوماً. يتكرر كل يوم، حتى تشابهت الأيام عليها.
كانت تستمع للموشحات الصوفية. هدوء الموسيقى وحرارة وصف ابن الفارض. تنافض غريب أحست به، شعور كالرياح الهادرة التي يستقر دورانها في الكهوف الخاوية. كيف لها أن تشعر بقربها من صوفي مات منذ مئات السنين، وتكون غريبة تماماً عن مشهد النافذة الممل هذا.
هو الفراغ يحاصرها في أركان الغرفة التي كانت بها، أو بالأحرى بكل الغرف التي سكنتها من قبل. الأماكن ما عادت لها هذه الحميمية، ولا ذلك الدفء. ملّت الأخبار، والأصدقاء، والأهل، والتكنولوجيا وكل شيء. لم تعد للوجوه ملامح ولا ألوان. كل شيء أضحى متشابهاً بالنسبة لها. حتى الأصوات، والملابس، والورود والشجر والطيور والكتب، كل شيء. كل شيء حال إلى شيء واحد قبيح ومحايد وغريب، لا يعنيها على الإطلاق.
الهواء البارد المُجَامِل لم يعد يعنيها كذلك، كأنه يُقبِل على وجهها ساخراً من وجوده هو والشمس الحارة في فضاء واحد.

- "حتى الطقس متناقض هنا، شتاء بهواء بارد، وشمسٌ حارقه!"


صوت الموسيقى يرتفع وينخفض، "عذّب بما شئت".

- "كيف للعذاب أن يكون لذيذاً إلى هذا الحد حتى يسمح الشاعر لمن يخاطبه بالتفنن بطرق العذاب، إلا الابتعاد عنه ؟!"


الهواء يزداد بروده، احتضنت نفسها، ولملمت شعرها القصير خلف أذنها وأغلقت النافذة. استلقت على سريرها الأبيض. كانت ومازالت تحب البياض في كل شيء. هل لأنه لون البداية، بداية كل شيء؟ أم لأنه لون النهاية، حيث الحقيقة المطلقة.
كان سقف الغرفة ينظر إليها، كان شاهداً على كل شيء. لحظات الحب، والبكاء، والجنون، واللهفة. حتى أنها أحست بأن هذا السقف ينظر إليها بأنفة وتكبّر، لأنه يعرف كل التفاصيل، ويتذكرها جيداً. يعرف كل ما تخفيه هي عن أعين الناس، وربما حتى عن نفسها. وحده يعلم كل شيء. وحده يضيء الغرفة، وحده يبقى نظيفاً لابتعاده عن الأيدي والأرجل معاً. وحده يبقى عالياً، وحده البياض يمتد عليه دون أن يتغيّر أو بتبدّل.
أما هي فكانت تكره هذا السقف اللعين، لأنه كان يحجب عنها السماء. كانت تحلم أن تستلقي وهي تشاهد النجوم والقمر. ولكن هذا السقف كان حداً بينها وبين السماء.

- "من اخترع الأسقف لا بد أن يكون مختلاً أو مريضاً. لأن البيوت تعكس أرواح ساكنيها. لم يكن للبدو سقف إلا السماء، ولم يكن لأهل البحر سقف إلا خوص النخيل المتشابك.
حتى الجدران باتت باهته. ليس لها ذلك الرونق الذي اعتدته. لم تعد تتحدث عن ساكنيها كما كانت تفعل من قبل. لم تعد دافئة كما كانت من قبل. ربما أصبحت باردة لأن من يسكن خلفها لم يعد يعطيها من الدفء الكافي لتكون هي دافئة بدورها. الدفء أمر يأتي من مواقد القلوب، من تلك البراكين المنسية خلف أضلع البشر. أما الحجر، فلن يكون في النهاية إلا حجراً محايداً، لا وجه له."

صَمَتَ المسجل قليلاً. انتهت قصيدة ابن الفارض بـ "تآلفا بين الحان من الهزج". رفعت كفها وهي مستلقية وأخذت تتأملها، وابتسمت.

- "كم هو رقيق هذا الشاعر. لابد أنه كان يعيش في جنة لم يعرفها أحد قبله. يريد العذاب، ولكنه في النهاية يتآلف بين ألحان من الهزج."


اقترب بعد ذلك صوت فيروز، "رجِعت في المساء كالقمر المهاجر". علاقتها مع فيروز، علاقة معقدة جداً. كانت تحبها بقدر ما تكرهها. كانت تحتاج لصوتها كل صباح لتتصالح مع القبح المحيط بها، أصوات البناء، والسيارات، ومواء القطط، ومناظر الشوارع المهترئة وأنابيب المجاري المعطوبة. صوت فيروز كان يحملها بعيداً، إلى أمكنة ما عرفتها من قبل.
ومع هذا، كانت تكرهها، كانت تكره صُوَرَها، وغنجها، وقوتها، وحزنها. كانت تغار منها. من أحبته كان يعشق فيروز. كان يسمعها، ويعيد أغانيها، كأنها طقس من طقوس العشق المقدسة.
كانت فيروز تشاركها أشياء كثيرة وحميمة. ذلك الحنين الذي يحمله صوتها كان يجتاحها كالموج الغاضب. أغانيها تحمل ذكريات، وتاريخاَ طويلاً جداً.

- "الأغاني والموسيقى تأرّشف ذاكرة الإنسان بشكل يعتمد على الحنين، والتفاصيل التافهة."

هذه الأغنية بالذات، تُذَكِرها باليوم الذي قررت أن ترسل له رسالة، بعد عام من الانقطاع. لم تعلم إن كانت تحبه أم لا، ولكنها كانت تحن لحروفه، ولرواياته التي يقرأها، وللحزن الذي ما فارق عينيه. كتبت الرسالة، وحفظتها في ملف إلكتروني، ليتولاّها النسيان بعد ذلك. لم ترسل الرسالة أبداً، ولم يقرأها هو يوماً.

"سافرت البحار لم تأخذ السفينة.." كانت تتمنى في هذه اللحظة أن تسافر، تسافر مع الأشرعة التي لم تعرف الموانئ يوماً. أرادت أن تمسك مطرقة كبيرة تدمر بها هذه الجدران، وهذا السقف. أن تحرق كل الكتب التي تملأ المكتب والأرض والسرير والأدراج. أرادت أن تحرق مذكراتها وزهورها المجففة.
ولكنها لم تفعل أياً من ذلك. توقفت فيروز، وأغلقت هي المسجل. بدأت الشمس بالمغيب. لون الشفق يدخل من النافذة وينعكس على مكتبتها. بدأ البرد يزداد في أرجاء الغرفة. ومع كل هذا الصراخ العالي في صدرها، إلا أن السكون كان يصم آذان المكان.
أحست بأنها غريبة، منفية، مهدورة، مستهلكة حد الاهتراء. ملقية على قارعة الأمل.

- "ستغيب الشمس قريباً، وستغيب معها أشياء كثيرة، النوم وحده ليس قادراً على مسحها من الذاكرة".


بدأت جذور الظلام تزحف ببطيء إلى الغرفة. أضواء المنازل المجاورة بدأت تقتحم غرفتها من دون استئذان.

- "كم مر من الزمن حتى الآن؟ ساعة ؟ اثنتان؟ يوم؟ شهر؟ دهر، لا يهم."


المهم، أنها تعلم يقيناً بأنها ستخرج من حياتها التي يملؤها الوهم، وهي تعرف حقيقة واحدة فقط، أن التناقض هو الرفيق الوحيد الذي رافقها طوال عمرها. الشمس والهواء البارد، الغربة والوطن، العذاب واللذة، السقف والسماء، الكراهية والحب، الظلام وهذه الأضواء التي تغتال هدوء الليل.


** الصورة من موقع:www.katherinedutiel.com

الاثنين، نوفمبر 28، 2011

لأن الوقاحة لا تغيّر مجتمعاً


نعم، إنه فن. والفن يعني الإبداع، وقبل الإبداع الحرية. وكيف لمثلي ألّا تعرف ذلك، وأنا من درست تفاصيل الحداثة وما بعدها في الأدب الانجليزي.

إذاً ما الذي جعل الجميع يغضب عندما تم عرض لوحة لأثداء امرأة حلوب في قلب جامعه "فرجينيا"؟، أنا أقولها لكم، الذي أغضبنا هو الوقاحة.! الوقاحة في العرض، الوقاحة في التعاطي مع أفراد المجتمع القطري، طلاباً ومجتمعاً، المجتمع الذي تتغنى الجامعة بأنها تقدم له خدمات وورش تعليمية. الوقاحة في إحضار رسّامة تعرض ما يحلو لها من لوحات، وفوق ذلك يتم دفع مصاريف رحلتها كاملة إلى وطننا السعيد.

لقد تم انزال اللوحة وانتهى أمرها بعد أن احتج طلّاب الجامعة –لهم مني تحية حارة-، وانتهى الموضوع بسلام (أتمنى). ولكنني ما زلت أتساءل، وأتعجب من تفاصيل الحادثة.

ما الذي أرادوه من عرض هذه اللوحة في الأساس؟ وكيف تمكن لإدارة الجامعة أن ترد على طلابها المحتجين بأنها تستند إلى قانون رقم 19 في الأمم المتحدة الذي ينص على حق الرأي والتعبير! (وهو ما أضحكني حد البكاء). بل وزادوا على ذلك بالقول بأنهم يريدون أن يكون الطلاب قادرين على التعايش مع "المجتمع العالمي" فيما بعد. وهل صحيح ما تناقلته الألسن في أروقة الجامعة بأن هذا النوع من الفن هو الذي سيقود بمجتمعنا نحو التغيير والتطوّر؟

كيف لأثداء امرأة أن تعني التحضّر والمدنية؟ العري بطبيعة الحال لا يعني التحضر أبداً ، وهذه اللوحة وغيرها لن تقود بمجتمع –أي مجتمع- للتغيير مالم تكن الرغبة نابعة من المجتمع ذاته. جميعنا يعلم أن بعض المجتمعات البدائية أفرادها كانوا عراه، فهل دلّ ذلك على تحضرهم أو تمدنهم؟ أبداً، وخير دليل على ذلك بعض القبائل في افريقيا، التي ما يزال أهلها عراه في الأدغال.

ثم إنني أتساءل، من الذي أقنع هؤلاء الأجانب أنهم آتون هنا لتغيير المجتمع؟ وكيف يترك لهم الحبل على الغارب لينشروا ما يريدون متى ما شاءوا وكيفما شاءوا؟ استغرب كثيراً من الإشارات الخضراء التي تُعطى لهم، خصوصاً حينما يكون تواجدهم في البلد محدداً بزمن العقد، ثم ينصرفون غير مأسوفٍ عليهم.

إن التعليم هو رسالة خالدة طبعاً، وهو سم قاتل بكل تأكيد متى أُريد له ذلك. كان من الممكن أن يتم تدريس مادة الفن الحديث أو ما بعد الحداثي في الفصول الدراسية لأسباب تعليمية بحته. إن من دَرَس التاريخ والفن والأدب وحتى علم الاجتماع والفلسفة، يعلم بأن الفن في الغرب تغيّر وتطور بتطور النظريات الفلسفية التي أثرت على المجتمعات بتعاقب الأحقاب التاريخية، منذ عصر النهضة وحتى يومنا هذا. إذا فالفن "الحداثي وما بعده" ما هو إلا نتاج وانعكاس لمجتمع غربي مرّت عليه الكثير من التغيرات الاجتماعية والمدراس الفكرية.

أن يُلصق هذا الفن، بمجتمع كالمجتمع القطري الصغير عمراً مقارنة بالمجتمع الغربي، والذي تختلف خلفيته الثقافية والتاريخية تماماً عنّا، فذلك دليل على وجود قصور رهيب في فهم الفن وأدواته لدى أرباب الفن في هذه الجامعة. إن أرادوا تدريس هذا الفن ليُدَرِسوا الطلاب الفلسفة التي جاءت بسببه، والعمق الذي يرتكز عليه، بهذا يستطيعون أن ينتجوا طلاَبا قادرين على "مواكبة المجتمع العالمي" كما يزعمون.

إن قصور الفهم الدائم والعشوائية، والصاق تجارب الغير التي تفوقنا بمراحل، لمجتمعنا الصغير، ستؤدي بالمجتمع إلى تغييرات كارثية، نراها أمامنا الآن، ولن ننتظر زمناً طويلاً . هذه الحرب الضروس التي تقاد ضد الهوية بدأت علاماتها تطفو على السطح كالسمك النافق.

ربما يقول قائل، هل تريدين أن يبقى المجتمع منغلقاً على حاله؟ أرد وعيني في عينه، لا! طبعا لا! لسنا نعيش في مجتمع اليوتوبيا، نحن بكل تأكيد بحاجة للإصلاح، ولكن بأدوات مختلفة ليس لها علاقة بتمثال ديفد ولا بعيون الموناليزا. لأننا ببساطة لنا تجربة تاريخية وثقافية مختلفة تماماً، وأي طالب في سنة أولى علم اجتماع يعرف هذه الحقيقة كما يعرف الشمس!

لذلك أقول، لو عرف كل واحدٍ منا ومن الأجانب وظيفته في هذه الحياة، لما واجهنا هذه القصص التي تُضحِك الانسان غماً! وكما يقول الرائع مريد البرغوثي : "الشيء الأعدل توزيعاً على وجه البسيطة هي الحماقة"، وأنا أزيد عليه، والوقاحة كذلك!

الجمعة، أكتوبر 07، 2011

رحم الله زمان التفاح




أكتب هذه التدوينة، عالمةَ بأني سأنقلها من الورق إلى العالم الرقمي عن طريق الآيباد، وعلى مكتبتي بجانب أقلامي والأوراق الآيفون. هذا على الرغم من أنني لست من محبي التكنولوجيا ولا من متابعيها، ولكن الناجح والقائد دوماً هو من يفرض قوانين الحياة على العالم كله، وهذا ما فعله ستيف جوبز، الذي أحدث ثورة (ولكل ثورته) في عالم التكنولوجيا المتسارع.
حزنت كغيري من البشر في أرجاء المعمورة على موت جوبز، حيث أن قصتي معه تبدأ منذ طفولتي، وتحديداً في معمل الكمبيوتر في المدرسة، حين وَقَفت معلمتي ذات النظارة الكبيرة والمستديرة لتقول: "هذه الآلة تدعى ماكنتوش!" ففتحت عيني وفمي على وسعهما، وقلت لصديقتي التي بجانبي "الشوكلاتة!" ثم أكملت بقولها :"وهذا الصغير المتصل بها يدعى الفأرة"، فزاد اتساع ملامحي وقلت "توم وجيري هنا في المدرسة!". وبالإضافة إلى ملامح الاستغراب، فقد عَلَت وجهي البسمة كذلك حين شاهدت التفاحة الملونة المقضومة، وقلت في نفسي لابد أن الفأرة قد أكلت منها!. لا أنكر أن ظن الطفلة خاب بعد استخدام الآلة، فقد ظننت أني أمام عالم من الألعاب وليس عالماً من البرامج المعقدة التي ما فهمتها يوماً.
كبرت، وكبر ولعي بكل ما هو يدوي وقديم، وبقيت هذه الطفلة بداخلي كلما شاهدت جديداً في عالم التكنولوجيا الغريب.
بالأمس توفي مالئ الدنيا وشاغل الناس "جوبز"، وليس المتنبي العظيم طبعاً. لن أتحدث عن كفاحه ونجاحه فهو أمر واضح للأعمى، ولكن ما استفزني -علماً أنني لم استغربه كثيراً-، ذلك الجدل الذي دار بعد انتشار خبر وفاته عن جواز الترحم عليه أم لا. كان يوماً مشهوداً من أيامنا العربية المجيدة، يستخدمون الآلة ثم يلعنون صاحبها! لم أفهم بعد ولا أظنني سأفهم يوماً سبب إقحام الدين في كل شاردة وواردة، ثم إني لا افهم كيف يُنَصّب البعض أنفسهم حراساً على أبواب جنةٍ عرضها كعرض السماوات والأرض (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ) ؟ من شاء الله فليرحمه، ومن لم يشأ فهو سبحانه أعلم بالبشر.
كنت أتمنى أن يكون الحوار عن كيفية الاستفادة من علم جوبز، حياته، برامجه، ولكن العالم العربي أبى إلا أن يتمسك بأسلوب تعاطيه المعتاد مع الخبر. خبر آخر استوقفني، وهو أن جوبز من أصل عربي من حمص - سوريا تحديداً، أي أن الرجل "منّا وفينا"، غريب هو استئثار كل عظيمة لنا نحن العرب دوناً عن سائر البشر. توقفت لوهلة لأتخيل سيناريو محتمل لحياة جوبز ومصيره لو لم يهاجر والده، ربما انتهى به الحال كمبرمج لبرامج الكترونية مقلدة أو مسروقة في أحد أزقة حمص، أو في أفضل الحالات مبرمج أو تقني في أحد دول الخليج العربي.
لماذا لم يتوقف أحد أمام الظروف والأوضاع التي توفرت لجوبز أو أي مبدع مهما كان أصله، فجعلت منه عالماً، أو ناجحاً. ولماذا لم نفكر في البيئات الطاردة لكل شيء عدا القبح في أوطاننا العربية؟ كم من جوبز أضحى عندنا موظفاً عادياً يراوده حلم الهجرة ولا يستطيع إليه سبيلا؟
وبالعودة إلى التفاح والماكنتوش والفأرة، وبما أننا في زمن التحولات، فإني أقول، رحم الله أبا التفاحة والماكنتوش والفأرة "الجدد"، وأعان أمةً مازالت تنتظر المطر لحصاد التفاح، وتسمم الفئران حتى لا تقضي على ما تبقى من علبة الماكنتوش.


**ملاحظة: الصورة لـ ستيف جوبز في بداياتة.

الخميس، يونيو 23، 2011

جغرافيا النجوم



(مقدمة لابد منها)

كنت في ورشة عمل للكتابة الإبداعية في مجال الرواية والقصة. لا أنكر بأن لي محاولات متواضعة في كتابة القصة، ولكنني لم أحاول يوماً أن أطورها، ربما لأنني اكتفيت بأن أكون من قراء القصة والرواية المخلصين. على أية حال، لم تكن هذه الورشة سهلة أبداً بالنسبة لي، فقد اعتمد أسلوب الشرح على التحدي، وعلى اخراجنا "مما نرتاح إليه" في الكتابة، فكنت وبلا مبالغة أخرج يوماً بصداع لاستخدامي جميع الأساليب التي ما استخدمتها يوماً، أو أنني لم أكن استخدمها حتى في حياتي وتعاملي اليومي. أنا لا ألحظ التفاصيل عادة ولا تهمني، ولم أكن أهتم إلى الشكل، اللون، أو أي شيء آخر. فالمضمون يطغى على الظاهر دائماً عندي.
في آخر يوم من الورشة، كان التحدي بمقاس كل مشارك فينا. كان عبارة عن مجموعة من الأوراق، وفي كل ورقة كتبت جملة مختلفة، وعلينا أن نجمع هذه الجمل في قصة. كانت أوراقي كالآتي: أستاذ جغرافيا. عمره 40 سنه. يعاني من مرض عضال. الزمن عام 2050 ويجب أن تكتب هذه الأحداث بأسلوب فكاهي. وأن تكون هذه القصة بلسان الراوي لا الشخصيات!!
وجدت نفسي أمام أحجية، كيف لي أن أتحدث عن المرض بأسلوب فكاهي، وأن يتحدث عن القصة شخص غيري، حتى ولو كان الراوي! على أية حال، كتبت القصة، وكانت الضحكات عالية، حين قرأتها، ولكن الحزن لم يفارق.
أنشر هذه القصة، ليس لإيماني بجودتها الأدبية، فمازالت أظنني لا أملك ذلك الأسلوب الأدبي الكافي لكتابة القصة، انما نشرتها لتكون بداية لشيء ما، ربما نشرت لي قصة أو رواية يوماً، وإن كنت ابنة فن المقالة الأولى والدائمة.

===

(القصة)

تَذَكر نجيب الكرة الأرضية التي أهدتها إليه أمه وهو ابن العاشرة، وكيف تحولت هذه الكرة إلى كرة قدم يقذفها على نافذة أم حسن الجارة الثقيلة الدم والجسد معاً. وتذكر اليوم الذي تكسرت فيه نافذتها، حين خرجت من البلكون وشتمت شجرة عائلته من جذورها حتى أخر غصن فيها. "يا ابن الملاعين! اقسم برب السماء لأدفع أبوك ثمن هذه النافذة غالياً، وليبقى مرتدياً قميصه المتسخ هذا لسنة قادمة".
أعاده ألم الإبرة من بلكون أم حسن إلى غرفة المستشفى البيضاء. كانت الممرضة طويلة، كطول الإبرة المؤلمة، مما جعل التنورة تبدو أكثر قصراً. تخيل نفسه معها على شاطئ البحر، فهذه الساقين الطويلتين خلقتا لموج البحر. استدرك نفسه قبل أن يصل بخياله إلى ما لا يريد، خصوصاً وأن زوجته عفاف تحاول أن تخفي رغبتها القوية باللطم. دمه الأحمر ذكره بالبحر الأحمر الذي رسمه لطلابه ألف مره على سبورة الفصل، ولكن أكثرهم لم يتذكر من الخريطة إلا أذنا الأرنب!
طلبت منه الممرضة أن يدخل إلى الطبيب. أحس لوهله بأن الرغبة في اللطم انتقلت من عفاف إليه. كان يكره الدخول إلى الطبيب. كان طبيباً ممتلئ الهيئة، وعلى الأغلب مدخن لصفار أسنانه، وسواد أطراف أصابعه، الوسطى والسبابة، وفوق هذا كله كان أصلع. باختصار، لو كان لمرضه العضال هيئة، فإنها بكل تأكيد ستكون كهيئة هذا الطبيب.
قال له الطبيب " نحن في عام 2050، الطب لن يتطور أكثر من ذلك. فلا تجزع". أراد نجيب أن يصرخ في وجهه، فهو لا محاله ميت بعد شهور، ولكنه حاول تحاشي الضجة التي ستثيرها زوجته حين تنتحب وتلطم. فاكتفى بتعديل جاكيته البني الرث، وقال "الله كريم"، وخرج هو وعفاف.
في المصعد، صعدت معهم امرأة في حالة مخاض. كان نجيب يتحاشى هذه الأمور، حتى أنه لم يكن موجوداً عندما ولدت له عفاف أبناءه الأربعة. يا لسخافة الصدف! ها هو الآن محبوس مع امرأة غريبة تتوجع. لَم يعلم لِمَ كان يتحاشى هذه الأمور، هل كان يخاف البدايات. هل تتلازم البداية مع نهاية شيء ما في هذا العالم. هل كان يخاف الألم؟ أم صراخ البداية؟ ولم علينا أن نتألم حتى نبدأ من جديد، أو حتى من اللاشيء. وكيف اجتمع موته وحياة هذا الطفل في هذا المكان الضيق. هل سيتألم هو حين يموت كما تتألم هذه لأنها ستلد؟
أحس نجيب بأن كل ألم في بطنه هو، وبعد ثوانٍ اختصرت عمره كله انفتح الباب فكان الافراج.
كان الممر المؤدي إلى مخرج المستشفى طويلاً جداً، كريه الرائحة، أبيضاً كالنهاية. الأضواء كانت تميل إلى الخضرة التي تعمي البصر والبصيرة معاً. كان يمشي مسرعاً، أراد أن يخرج، أن يصل إلى البيت ليخبئ نفسه خلف خرائط الجغرافيا التي لم يزر أياً من الدول التي عليها يوماً، عَلّه يسافر من مرضه، ومن ألمه، ومن موته.
وصل إلى الشارع أمام المستشفى، كان الشارع خالياً من سيارات الأجرة بسبب المطر الغزير. وقف يتأمل زوجته تحت المطر، لم يكن يتأمل جمالها بطبيعة الحال، ولكنه تأمل تجاعيدها بعد مرور كل هذه السنين، الأكياس الدهنية كبيرها وصغيرها المتوزعة على جسدها. هي بعمره، أو ربما تصغره بسنتين. ولكنه أشفق على تركها بعد موته، وأشفق على أبناءه الاربعة.
ولكنه أشفق على نفسه أكثر، فبعد أربعين عاماً هي عمره، يموت وحيداً، دون أن يحقق حلمه،
معانقة النجوم..

الثلاثاء، مايو 31، 2011

انتي حلوة زي بنات يافا..!






كنت مسافرة وحدي. المطار كالعادة مكتظ بالمسافرين، حين تم الاعلان عن موعد اقلاع الطائرة، ذهبت إلى صاله الانتظار، ولم أجد إلا كرسياً واحداً بجانب امرأة كبيرة في السن. سلمت وجلست. كنت ألحظها وهي تحاول أن تملأ تأشيرة الدخول إلى السعودية. بعد لحظات من الحيرة، التفتت إليّ وقالت: خالتو انتي زي بناتي اقريلي شو مكتوب. وما هي إلا دقائق أخرى إلا ووجدتني أتحدث معها. كان حديثاً مشوقاً جداً، كان معظمه عن زوجها أستاذ اللغة العربية. اكتشفت أن كلتينا مسافرتين لوحدنا. فتمنيت لو تجلس إلى جانبي في الطائرة لتكمل حديثها المشوق.

لا أنكر أنني أعشق أحاديث الكبار في السن، له دفء وحميمية وصدق. لحسن حظي وبالمصادفة البحتة، كان مقعدها إلى جانب مقعدي في الطائرة. حدثتني عن أشياء كثيرة، عن ثلاث أجيال عاصرتهم. جيل والديها. ثم جيلها، وبعدهم جيل أبنائها. قالت لي بأنها ابنه مختار يافا! وأن والدها شارك في ثورة الثلاثينات. وأنه اعتقل لأن أحداً قد ذكر اسمه تحت التعذيب. أما قصة الافراج عنه فكانت غريبة. نصحه المحامي بأن يتظاهر بالجنون!! قال له إن أدخلوك على الضابط الإنجليزي التزم الصمت، حتى اذا غضب من طول صمتك، امسك المحبرة والقها في وجهه. وكذلك فعل، فاتهم بالجنون وخرج!!

اخبرتني عن السرايا التي يملكونها في يافا، وكيف أن نساء اليهود الفقريات كن يدقون نوافذ السرايا ويقولون "أساور حلق،، أساور حلق" لبيعها على نساء فلسطين. حدثتني عن جارتهم اليهودية المشرقية. هي قصص أثارت في الحنين والغصة. كيف كنّا وكيف أصبحنا وإلى أين سنذهب. هل سنذكر كل هذه التفاصيل في السنوات القادمة؟ هل سيحكيها جيلنا للجيل الذي سيأتي، حتى لا ننسى، ولا أظننا ننسى يوماً.

بعد حديث طويل سألتني عن اسمي، قلت لها كلثم، فردت بتعجب شديد "سبحان الله! زي اسم أمي!"، فقلت لها " خالتو كَلثَم، وليس كلثوم" قالت" آه، احنا ففلسطين بنقول كلثم" استغربت كثيراً، حيث أني –ومن طول خبرتي- حفظت الجمل التي تقال لي بعد أن أقول اسمي، وهما جملتين لا ثالث لهما، الأولى "اسمك قديم جداً" إذا كان المتحدث من الخليج، أما إذا كان من دولة عربية فالجملة تكون كالآتي "اسمك غريب!، لم اسمع به من قبل، ما معناه؟". ولكن هذه المرة الأولى التي يقال لي فيها انه مثل اسم أمي!

على أية حال، أكملت "خالتو" فقالت، بل إنك تشبهين أمي! الأنف الصغير والعين. " انتي حلوه زي بنات يافا، ربما كانت أمك من فلسطين؟ في شي فدمك " قلت لها "يشرفني ولكنني خليجية أباً عن جد ومن الجهتين". إلا أنها أكملت بقولها "الظاهر انه سيدك راح من ورا ستك وتزوج وحده من يافا"، ضحكت وقلت "كل شي جايز!"

عند اقتراب الطائرة من الهبوط، أخذت "خالتو" تقلب أوراق التأشيرة، علمت بأن ما يجمعنا أكثر بكثير مما يفرقنا، هي أوراق فرقنتا، مجرد مسميات، دول، تأشيرات، وهويات. لنا نفس الأحلام، ونفس الآمال، ونفس اللغة، ونفس الهموم وحتى الذكريات.

في نهاية هذه الرحلة، كنت سعيدة بأشياء كثيره، القصص، الحكايات، كلمه "الله يرضى عليكي يمه" كل عشر دقائق، وأني سعيدة باسمي، فبعد أن كنت أقول بأنه اسم أخت النبي موسى-عليه السلام-، واسم معشوقه عمرو بن أبي ربيعة الذي قال فيها:

من عاشقٍ صبٍّ يسرُّ الهوى ،

قَدْ شَفَّهُ الوَجْدُ إلَى كَلْثَمِ

أستطيع أيضاً أن أضيف إلى "أعلام" اسمي زوجة مختار يافا.

الأحد، مايو 29، 2011

هل نحن مجسمات للمتاحف؟!

كنت في رحلة قصيرة إلى رأس الخيمة لحضور عرس أحد أقاربي، حيث أن جدتي لأمي من هناك। لم أزر المدينة منذ زمن طويل جداً، لذلك كنت في غاية السعادة والفضول لرؤيتها بعد طول غياب، ولم أكن أعلم ما أنتظره وينتظرني।


"بيّن اليِبَل ! (الجبل) " قلت أنا وأهلي في السيارة. كان الجبل علامة الوصول الدائمة إلى رأس الخيمة. المكان على حاله كأن الزمن لم يمضي من هذه المنطقة. النخيل، الشجر، حرقة الشمس، المزارع ، الجبال، البحر، والناس الذين لم تلوثهم المدنية، الأحياء القديمة، والبيوت البسيطة، والتي عَلَتها أضواء العرس. البهجة لا تعرف الترف ولم تعرفه يوماً، السعادة دائماً تكون بما هو موجود، بالبسيط، بالقناعة وبالرضى. تَذَكَرتُني وأنا طفلة ألعب مع الماعز في أزقة حي جدتي، وتذكرت "الدكان" الذي باعنا "بطاطس عمان" و "بابي سناك" وعصير "شاني"، وتذكرت الوجوه التي رحلت، ورأيت الوجوه التي كبرت، والوجوه الجديدة।

لم نسكن في ذلك الحي، بل سكنّا في منتجع عالمي هناك، ويا للمفارقة! مع دخولنا بوابة المنتجع ، أصبحنا في بلد آخر، بل في عالم آخر. الناس هناك شقر وحمر وعيونهم ملونه! لن أتحدث عن الملابس، فـ "المنتجع" كان يتمركز على مرتفع مطل على البحر، وما أدراك ما البحر؟!
هو مشهد يتكرر كثيراً هنا في الخليج، على أرضي التي عشقتها، وأخذت سمرة لوني من شمسها، الشمس التي اشتكيت منها طويلاً! إلا أنها جزء مني وحرارتها تغلي في دمي! مشهد يتكرر على شواطئ ذلك البحر الذي احتضنني طلفه، واحتضن أهلي وأجدادي ولا يزال.

لم أعتقد يوماً أني سأضطر للتحدث بجميع لغات العالم إلا العربية في بلدي، وأن يوماً سيأتي ويُنظَر إليّ وكأني دخيله!! فالمكان ليس لي। وكراسي المطعم ليست لي، وإن شئت الجلوس أجلسوني في الخارج، فالمقاعد المكيفة لأصحاب العيون الزرق! لم أعلم أنه سيأتي يوم تكون فيه عباءتي السوداء محل تساؤل في الخليج، والعيون ترقبني متعجبة "ما لذي أدخل هذه إلى هنا؟! "، لم أعلم أن "الغترة والعقال" سيكونان جزءاً من الزي الذي يلبسه السواح للصور التذكارية.



في صبيحة اليوم التالي، استجمعت قوتي (ولم أظن أني سأفعل ذلك يوماً للنزول إلى البحر الذي ألفته) ونزلت إلى البحر، كنت بعباءتي السوداء، بل كنت الوحيدة من الخليج والعرب أصلا هناك! أحسست بالغربة على ترابي। عيون الناس تلاحقني وكأنني أنا التي يجب عليها أن ترحل. ولكنني أصررت على المشي. نظرت نظرة من بعيد إلى هذا "المنتجع"، وفي بالي تساؤل تملؤه الغصة، هل نحن فعلاً بحاجة إلى هذه المنتجعات على شواطئنا؟ هي ليست لأهل البلد، ولكنها على أرضهم. وهل نحن بحاجة لهؤلاء أصلا؟ أليس من حقي أتساءل وأن أفهم؟ أم أن للحياة العصرية متطلبات لا يمكن لعقلي البسيط استيعابها!، وإن كان لدينا المال الكافي، فلماذا لا نستخدمه لنا! لفائدتنا؟ أشفقت على الجبل مما يراه، فبعد أن اختلطت صخوره بعرق المزارعين وأهل البحر، ها هو الآن ينظر إلى أشخاص لا يعرفهم. أشفقت على البحر، وأشفقت على حالنا.
الحنين إلى الماضي لا يكفي، تضاريس الحياة تتغير بشكل مفاجئ وسريع ومخيف। تساؤل دار في بالي وأنا أحترق تحت شمس الصباح، من نحن؟ وأين نذهب؟ كيف تغيرنا وإلى أين سنصل؟ وماذا نريد؟ أسئلة تدق كالمطارق في رأسي، ولم أجد لها جواباً شافياَ أو مقنعاً.



قبل أن أنهي هذه الرحلة -التي توقفت كثيراً عند وصفها، ولم أجد لها وصفاً بعد-، دفنت رجلي في تراب الشاطئ، عند نهاية أمواج البحر। ومن شده قهري أخذت أدفنها في التراب الحار أعمق وأعمق، ويا للمفاجأة! لامس قدمي تراب بارد، بارد جداً!



علمت وتيقنت أن هذا البحر وهذا التراب أرادا توديعي، أرادا أن يقولا لي: لا عليك، فأنتم أهلنا، وهذه المياه ملحها من عرقكم الطاهر، وهذا التراب تخضب بأيديكم السمراء।يا إلهي! هل تحس بنا الأشياء كما نحس بها! هل تشتاقنا كما نشتاقها؟ هل قال لي البحر يومها فعلاً، لا عليك! فما فوق الارض من حرارة هو شيء زائل، وأتنم لكم العمق والبرد والسلام। ما زلت أحس ببروده التراب على أطراف أصابعي।



ودعت البحر وعدت أدراجي، محمّلة بالكثير، وقد حمّلني البحر حباً عظيماً فوق حبي له ولهذه الأرض (أرض الخليج). وأنا في طريقي إلى العودة، أسندت رأسي على شباك السيارة، وعيناي ترقبان تراب الصحراء الأحمر. أمنية وحيدة جالت في خاطري، وهي الّا نتحوّل يوماً ما إلى أشباه سكان أمريكا الأصليين، مجسمات للمتاحف وفقط!

الاثنين، مارس 14، 2011

سحر واسيني الأعرج


"يجب أن تعرفوا أني مُنهك ومنتهك وحزين ومتوحد مثل الكآبة"

كنت ومازلت أقول،، إنه سحر واسيني الأعرج، سحر في الكلمات، سحر في العالم الذي يأخذك إليه بحروفه، حتى تكاد تسمع الموسيقى، وتشم العطور. هو العالم الذي يُسكِنُك فيه واسيني فيَسكُنُك حتى بعد الانتهاء من الرواية. هو يقول هذا بنفسه على لسان بطل الرواية:

"للألفاظ سحر خاص، يأسر العمق إليه بقوة منقطعة النظير ويؤدي به إلى عمق أعماق الهاوية "

إنها رواية سيدة المقام...مراثي الجمعة الحزينة، للروائي الجزائري واسيني الأعرج، منذ أن وقعت عيني على أول كلمة من الرواية علمت بأنها من الروايات التي ستأخذني بعيداً.

"شيء ما تكسر في هذه المدينة بعد أن سقط من علو شاهق"

ومع مرور الصفحات علمت بأن هذه الرواية بالذات تحتاج للقلم، حين انتهيت من الرواية كانت معظم الصفحات قد ثنيت، وعُلِّم عليها، ليس لروعة الكلمات فحسب وإنما لجمال الأفكار كذلك. باختصار هو نص آسر. هو نص يتحدث بالكامل عن المدينة التي لم تفارق حوار شخصيات الرواية، حتى بت أتساءل من هي سيدة المقام؟ هل هي مريم (بطلة الرواية)؟ أم الجزائر؟
أحس بأني إن ذهبت إلى الجزائر فلن أتوه أبداً في شوارعها وأزقتها، لن أتوه عن مستشفى مصطفى باشا، ولا عن جسر تليمي ولا عن البحر الذي كان حاضراً في كثير من مشاهد الرواية، وبالتأكيد لن أتوه عن ساحة مدرسة الفنون الجميلة ولا صالة المسرح الوطني التي عَرَضت مريم على خشبتها آخر رقصة لها قبل أن تموت بسبب الرصاصة "الوطنية".
اهتم واسيني بالجمال في هذا النص، فطوال قراءتي وأنا أسمع مع أبطال الرواية مقطوعة موسيقية ما، أو أهازيج جزائرية شعبية أو موشحاً أندلسياً أو حتى فيروز.
كنت أرى مع الأبطال اللوحات التي عُلّقت على الحيطان। كنت أرى الجزائر كيف كانت وكيف أصبحت، ألوان البنايات، الأبواب، حتى لون السماء والبحر، حتى أنني بحثت عن الأسماء التي ذُكرت في الرواية لشعراء وفناننين تشكيليين وموسقيين وأدباء عرب وعالميين، أحسست بأني بعد هذا النص ازددت جمالاً.
===
مريم راقصة البالية ومحمد أستاذ الفنون الجميلة، هموم المرأة وهموم المثقف، في مدينة نسيت جمالها وأبناءها و حتى شهدائها.


"صباح الخجل يا بلاداً تنسى أحبتها وشهداءها، في الصباح تقرأ على أرواحهم الفاتحة وفي المساء تحاكمهم"


مريم،،التي استفتح واسيني روايته بوصفها:

"في البدء كنت وحدك وكانت الزرقة والماء
إليكَ أيها البحر المنسي في جبروت عزلتك الكبيرة
إليكِ مريم، يا زهرة الأوركيدا ومرثية الغريب
يا سيدة المقام والمستحيلات كلها"


راقصة البالية التي أحبت الحياة حتى الموت!! التي عانت مثل كل النساء في بلادنا، الزواج لأجل الهروب،، الوحشية من زوجها ومن المجتمع ووحشية النظام الذي رآها راقصه وقبل ذلك امرأة ليس لها إلا البيت، ولكنها كانت مجنونه "هبيله" كما كانت تسمي نفسها،، كانت تقول لمحمد : "لنا كل الموت لننام"، عاشت مع رصاصة في رأسها، كانت تحمل ذاكرة الوطن في رأسها ،كانت أعماقها تموت وتتهاوى ولكنها أصرت على الحياة وأن تكون سعيدة فيها وبها.شخصية أحزنتني، فمع كل قوتها، كانت الظروف دائماً ما تكسرها، دائماً ما تغلبها.
"أنت تراني وسط هذا الفراش الذي أكرهه قالت مريم بمسحة من الحزن، أشعر بالدوار في كل لحظة. لقد صرت أقل من نصف انسان لا أتحرك مطلقاً، إني أشم رائحة الموت. مصرة على الحياة لكن بأي سلاح؟"


وصفها محمد بطل الرواية فقال:

"عينان خضراوان، ووجة خمري..
مناوشة في كل شيء، ورائعة حتى فالحماقات"
"أيمكن أن يكون المرء مدهشاً إلى هذه الدرجة؟ وجميلاً بكل ها العمق!
أيعقل أن تمتلك عيون البشرية كل هذه الروعة الغجرية؟!"

محمد، الأستاذ الجامعي الذي رمى به حراس النوايا في المزابل، الذي أفنى عمره حباً لهذا الوطن، ابن الشهيد. أحب مريم وتألم لفقدها كما تألم لفقد هذه المدينه.

"في أعماقي تأسفت كثيراً على استشهاد والدي وعلى تغربي إلى ايطاليا للدراسة، وعلى مريم التي تحملت رصاصة، جاءت بهؤلاء الأقوام، بزمر حراس النوايا"

المثقف الذي يعاني في أوطاننا يحدث نفسه في لحظة ضعف فيقول:

"بربك أنت أستاذ جامعي؟! وكاتب؟ وعاشق للفن الكلاسيكي؟ يا رجل يكفي من النكت. أنت لا شيء في هذا الفضاء المؤكسد. حراس النوايا كانوا محقين عندما قالوا لك يكفي من الفستي (الكذب). أستاذ الزفت. لا شيء فيك يثبت هويتك التي لم يسأل عنها حراس النوايا. ما معنى الهوية في وطن ليس لك."

وشخصيات كثيره عشنا معها ألم المعاناة والفقد والأسى، وربما الحنين.

تدور أحداث هذه الرواية في بداية التسعينات، الوضع السياسي في الجزائر كان حاضراً ولم يغب أبداً،تأخذك الرواية إلى ما لا يصل إلى مسامع الناس، إلى الأحاديث وراء الأبواب المغلقة، إلى ملامح الوجوه التي تبدلت، إلى شروخ الأبنية العتيقة، إلى لون البحر وقد حال إلى لون الرماد،إلى ما لا يراه إلا من قاسى وعانى.
أسماهم واسيني "حراس النوايا"، الذين تحولت المدينة على يدهم إلى تجارة ومحظورات وجمعيات خيرية.تآكل جمال المدينة وتآكلت معها قلوب الناس وأروحهم.
من نَصَّبهم حراساً على نوايا الناس وأحلامهم وآمالهم؟! حراسٌ لا ذاكرة لهم إلا ما أرادوا تذكره.

"يبدو أن التخريب المتقن للمدينة، شرع فيه منذ زمن بعيد، كم هو قصير هذا الزمن وذاكرته لا ترى أكثر من حاضرها".


"مدينتنا تسرق مثلما تسرق النجوم. لا شيئ تغير في هذه المدينة الحزينة التي تموت يومياً. تموت مثل ريف قديم وتتحول إلى قرية صغيرة. تتهاوى مثل الورق اليابس. كل شيء فيها بدأ يفقد معناه، الشوارع. السيارات. الناس..."


"ذهب الزمن الذي كان المرء فيه يأكل قطعة خبز صغيرة سمراء وينام، ويأكل اليوم الواحد فيهم مدينة بكاملها ويطلب المزيد!"


"الرداءة صارت قانوناً!"


"الثقافة ميتة أو يقتلون الآن جثتها. البطالة. السكن. الندرة في كل شيء إلا الولادات، الوجوه المستورده التي تعلمنا ديننا وأخلاقنا وكأننا فجأة نكتشف الإسلام، ونكتشف أننا صُيّع وبدون أخلاق!"

====
كانت يد واسيني، كيد عازف العود الذي يضرب على الأوتار فتكون الموسيقى، الفرق أن واسيني يضرب على أوتار الروح.فالحوار كان قربياً وصادقاً، أذكر أني رددت بعضاً منه في نفسي!
أني شعرت بهذا الشعور من قبل ولكن الحرف ظل عاجزاً عن التعبير.
هل من الممكن أن يحمل قلبي كل هذه الغصة وهذا الحزن؟! حقيقة لست أعلم،ما أعلمه هو أنه استطاع أن يبكيني، أن يشعرني بالخوف، والانكسار والضعف،استطاع أن يشعرني بالأمل وبكثير من خيبات الأمل كذلك، استطاع أن يثير كل الأسئلة التي لا إجابة لها.

"لماذا يحضر الموت، كلما تعلق الأمر بالحياة؟"

"لماذا لا تستثار الألفة وحنين الفقدان إلا لحظة الافتقاد فقط؟"

"هل بإمكاني الآن أن أعد الأزمنة المنقرضة على هوامش هذه الأفراح المقتولة؟! يحزنني الحنين وتقلقني برودة الأمكنة الصامته وطقوس المدينة التي تذهب ولا تعود"

"هل تسمعين الأشياء الثمينة التي تتكسر الآن بحزن كبير في الداخل؟ هل تسمعين الخراب الذي ينشب أظافره في الداخل؟؟ أوف يا سيدي، لاجديد! لقد تعودنا على الكسور"

يقول محمد فأوافقه بغصة:
"أعرف أن الفنان في هذا البلد عليه ان يموت ليكون، بدل أن يعمّق عشقه للحياة. وإذا لم يمت، يُقتل. أعرف كل هذا ولكن الله غالب"

جُمَل كثيرة عزفت أعذب النغمات وأجملها:

"لقد تعبت! تعبت من قراءة الشوق والنسيان والأحلام"

"إننا نموت بشكل متجزئ! يموت الفرح، تموت الذاكرة، تنحني الأشواق، ندخل في الرتابة، ثم ننسحب،نشيخ بسرعة، وبشكل مذهل شيء ما يتآكل يومياً في داخلنا ولا نشعر"
"صرنا نتآلف مع الخيبة بسهولة"
أحسست بأن هذا النص أراد أن يحتفل بالحزن، بالغربة، بالغصة! هو ألم الكتابة، الرغبة التي لا نفهمها في تحويل بركان المشاعر إلى حروف.

"يجب أن نحزن حتى نملك جرأة القول"

"تمنيت أن يكون لدي زمن وكثافة من الألم لكتابة هذه الفاجعة، لكن الانهيار الداخلي كان مذهلاً يتوازى مع حالات الجنون"


"كتاباتي... هل هناك شيء أهم من الكتابة، من تحويل الكلمات الضائعة، الجافة إلى كائنات حية؟ ولكن في بلادنا مسكينٌ الكاتب يصرخ في وادٍ خالٍ"


"الأوراق.. الأوراق.. الأوراق.. دائماً الأوراق.. عفواً مريم لقد كنت أحبك وعندما أكتب أشعر بخجل كبير لأنني أتعرى أمام بياض الورقة وصفائها مثلما أتعرى في حضرتك"
=====

سيدة المقام...مراثي الجمعة الحزينة، رواية ستظل في الذاكرة طويلاً، كلما نظرت من حولي، كلما نظرت إلى نفسي، ففي كل واحدة منّا تعيش مريم، وفي كل مثقف في أوطاننا مات محمد!!


"كلنا يحمل في الدماغ رصاصات، بل عيارات مدفعية، نحمل حزناً بثقل القرون التي مرت بجفاف مدقع، لم نرث منها إلا كيف نموت، ووضعنا كل شيء له علاقه بالحياة في المزابل ومسخنا به وسخ الشوارع. نحمل معكِ حتماً أهوال الجمعة الحزينة وجنازاته السرية وأشلاء ناسه. الفارق الوحيد أن الرصاصة حقيقة في دماغك تذكرك بوجودها كلما نسيتها، بينما يحدث أن ننسى ذاكرتنا وننغمس في أحزان التفاهات اليومية"


في النهاية، قد يترسب في الذاكرة شيء من الفرح، وكثير من الحزن، ولكن الأمل يبقى حاضراً كالنور في الأرواح، ولن يتمكن أحد من انتزاعه، حتى حراس النوايا.
"هو العمر كله يمضي في عشقك
عمرٌ من الحنين وبعض السنوات..
عمرٌ من الفرحة والحنين وبعض السنوات..
عمر من الحماقة وبعض السنوات.."