الأحد، مايو 29، 2011

هل نحن مجسمات للمتاحف؟!

كنت في رحلة قصيرة إلى رأس الخيمة لحضور عرس أحد أقاربي، حيث أن جدتي لأمي من هناك। لم أزر المدينة منذ زمن طويل جداً، لذلك كنت في غاية السعادة والفضول لرؤيتها بعد طول غياب، ولم أكن أعلم ما أنتظره وينتظرني।


"بيّن اليِبَل ! (الجبل) " قلت أنا وأهلي في السيارة. كان الجبل علامة الوصول الدائمة إلى رأس الخيمة. المكان على حاله كأن الزمن لم يمضي من هذه المنطقة. النخيل، الشجر، حرقة الشمس، المزارع ، الجبال، البحر، والناس الذين لم تلوثهم المدنية، الأحياء القديمة، والبيوت البسيطة، والتي عَلَتها أضواء العرس. البهجة لا تعرف الترف ولم تعرفه يوماً، السعادة دائماً تكون بما هو موجود، بالبسيط، بالقناعة وبالرضى. تَذَكَرتُني وأنا طفلة ألعب مع الماعز في أزقة حي جدتي، وتذكرت "الدكان" الذي باعنا "بطاطس عمان" و "بابي سناك" وعصير "شاني"، وتذكرت الوجوه التي رحلت، ورأيت الوجوه التي كبرت، والوجوه الجديدة।

لم نسكن في ذلك الحي، بل سكنّا في منتجع عالمي هناك، ويا للمفارقة! مع دخولنا بوابة المنتجع ، أصبحنا في بلد آخر، بل في عالم آخر. الناس هناك شقر وحمر وعيونهم ملونه! لن أتحدث عن الملابس، فـ "المنتجع" كان يتمركز على مرتفع مطل على البحر، وما أدراك ما البحر؟!
هو مشهد يتكرر كثيراً هنا في الخليج، على أرضي التي عشقتها، وأخذت سمرة لوني من شمسها، الشمس التي اشتكيت منها طويلاً! إلا أنها جزء مني وحرارتها تغلي في دمي! مشهد يتكرر على شواطئ ذلك البحر الذي احتضنني طلفه، واحتضن أهلي وأجدادي ولا يزال.

لم أعتقد يوماً أني سأضطر للتحدث بجميع لغات العالم إلا العربية في بلدي، وأن يوماً سيأتي ويُنظَر إليّ وكأني دخيله!! فالمكان ليس لي। وكراسي المطعم ليست لي، وإن شئت الجلوس أجلسوني في الخارج، فالمقاعد المكيفة لأصحاب العيون الزرق! لم أعلم أنه سيأتي يوم تكون فيه عباءتي السوداء محل تساؤل في الخليج، والعيون ترقبني متعجبة "ما لذي أدخل هذه إلى هنا؟! "، لم أعلم أن "الغترة والعقال" سيكونان جزءاً من الزي الذي يلبسه السواح للصور التذكارية.



في صبيحة اليوم التالي، استجمعت قوتي (ولم أظن أني سأفعل ذلك يوماً للنزول إلى البحر الذي ألفته) ونزلت إلى البحر، كنت بعباءتي السوداء، بل كنت الوحيدة من الخليج والعرب أصلا هناك! أحسست بالغربة على ترابي। عيون الناس تلاحقني وكأنني أنا التي يجب عليها أن ترحل. ولكنني أصررت على المشي. نظرت نظرة من بعيد إلى هذا "المنتجع"، وفي بالي تساؤل تملؤه الغصة، هل نحن فعلاً بحاجة إلى هذه المنتجعات على شواطئنا؟ هي ليست لأهل البلد، ولكنها على أرضهم. وهل نحن بحاجة لهؤلاء أصلا؟ أليس من حقي أتساءل وأن أفهم؟ أم أن للحياة العصرية متطلبات لا يمكن لعقلي البسيط استيعابها!، وإن كان لدينا المال الكافي، فلماذا لا نستخدمه لنا! لفائدتنا؟ أشفقت على الجبل مما يراه، فبعد أن اختلطت صخوره بعرق المزارعين وأهل البحر، ها هو الآن ينظر إلى أشخاص لا يعرفهم. أشفقت على البحر، وأشفقت على حالنا.
الحنين إلى الماضي لا يكفي، تضاريس الحياة تتغير بشكل مفاجئ وسريع ومخيف। تساؤل دار في بالي وأنا أحترق تحت شمس الصباح، من نحن؟ وأين نذهب؟ كيف تغيرنا وإلى أين سنصل؟ وماذا نريد؟ أسئلة تدق كالمطارق في رأسي، ولم أجد لها جواباً شافياَ أو مقنعاً.



قبل أن أنهي هذه الرحلة -التي توقفت كثيراً عند وصفها، ولم أجد لها وصفاً بعد-، دفنت رجلي في تراب الشاطئ، عند نهاية أمواج البحر। ومن شده قهري أخذت أدفنها في التراب الحار أعمق وأعمق، ويا للمفاجأة! لامس قدمي تراب بارد، بارد جداً!



علمت وتيقنت أن هذا البحر وهذا التراب أرادا توديعي، أرادا أن يقولا لي: لا عليك، فأنتم أهلنا، وهذه المياه ملحها من عرقكم الطاهر، وهذا التراب تخضب بأيديكم السمراء।يا إلهي! هل تحس بنا الأشياء كما نحس بها! هل تشتاقنا كما نشتاقها؟ هل قال لي البحر يومها فعلاً، لا عليك! فما فوق الارض من حرارة هو شيء زائل، وأتنم لكم العمق والبرد والسلام। ما زلت أحس ببروده التراب على أطراف أصابعي।



ودعت البحر وعدت أدراجي، محمّلة بالكثير، وقد حمّلني البحر حباً عظيماً فوق حبي له ولهذه الأرض (أرض الخليج). وأنا في طريقي إلى العودة، أسندت رأسي على شباك السيارة، وعيناي ترقبان تراب الصحراء الأحمر. أمنية وحيدة جالت في خاطري، وهي الّا نتحوّل يوماً ما إلى أشباه سكان أمريكا الأصليين، مجسمات للمتاحف وفقط!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق