الخميس، يونيو 23، 2011

جغرافيا النجوم



(مقدمة لابد منها)

كنت في ورشة عمل للكتابة الإبداعية في مجال الرواية والقصة. لا أنكر بأن لي محاولات متواضعة في كتابة القصة، ولكنني لم أحاول يوماً أن أطورها، ربما لأنني اكتفيت بأن أكون من قراء القصة والرواية المخلصين. على أية حال، لم تكن هذه الورشة سهلة أبداً بالنسبة لي، فقد اعتمد أسلوب الشرح على التحدي، وعلى اخراجنا "مما نرتاح إليه" في الكتابة، فكنت وبلا مبالغة أخرج يوماً بصداع لاستخدامي جميع الأساليب التي ما استخدمتها يوماً، أو أنني لم أكن استخدمها حتى في حياتي وتعاملي اليومي. أنا لا ألحظ التفاصيل عادة ولا تهمني، ولم أكن أهتم إلى الشكل، اللون، أو أي شيء آخر. فالمضمون يطغى على الظاهر دائماً عندي.
في آخر يوم من الورشة، كان التحدي بمقاس كل مشارك فينا. كان عبارة عن مجموعة من الأوراق، وفي كل ورقة كتبت جملة مختلفة، وعلينا أن نجمع هذه الجمل في قصة. كانت أوراقي كالآتي: أستاذ جغرافيا. عمره 40 سنه. يعاني من مرض عضال. الزمن عام 2050 ويجب أن تكتب هذه الأحداث بأسلوب فكاهي. وأن تكون هذه القصة بلسان الراوي لا الشخصيات!!
وجدت نفسي أمام أحجية، كيف لي أن أتحدث عن المرض بأسلوب فكاهي، وأن يتحدث عن القصة شخص غيري، حتى ولو كان الراوي! على أية حال، كتبت القصة، وكانت الضحكات عالية، حين قرأتها، ولكن الحزن لم يفارق.
أنشر هذه القصة، ليس لإيماني بجودتها الأدبية، فمازالت أظنني لا أملك ذلك الأسلوب الأدبي الكافي لكتابة القصة، انما نشرتها لتكون بداية لشيء ما، ربما نشرت لي قصة أو رواية يوماً، وإن كنت ابنة فن المقالة الأولى والدائمة.

===

(القصة)

تَذَكر نجيب الكرة الأرضية التي أهدتها إليه أمه وهو ابن العاشرة، وكيف تحولت هذه الكرة إلى كرة قدم يقذفها على نافذة أم حسن الجارة الثقيلة الدم والجسد معاً. وتذكر اليوم الذي تكسرت فيه نافذتها، حين خرجت من البلكون وشتمت شجرة عائلته من جذورها حتى أخر غصن فيها. "يا ابن الملاعين! اقسم برب السماء لأدفع أبوك ثمن هذه النافذة غالياً، وليبقى مرتدياً قميصه المتسخ هذا لسنة قادمة".
أعاده ألم الإبرة من بلكون أم حسن إلى غرفة المستشفى البيضاء. كانت الممرضة طويلة، كطول الإبرة المؤلمة، مما جعل التنورة تبدو أكثر قصراً. تخيل نفسه معها على شاطئ البحر، فهذه الساقين الطويلتين خلقتا لموج البحر. استدرك نفسه قبل أن يصل بخياله إلى ما لا يريد، خصوصاً وأن زوجته عفاف تحاول أن تخفي رغبتها القوية باللطم. دمه الأحمر ذكره بالبحر الأحمر الذي رسمه لطلابه ألف مره على سبورة الفصل، ولكن أكثرهم لم يتذكر من الخريطة إلا أذنا الأرنب!
طلبت منه الممرضة أن يدخل إلى الطبيب. أحس لوهله بأن الرغبة في اللطم انتقلت من عفاف إليه. كان يكره الدخول إلى الطبيب. كان طبيباً ممتلئ الهيئة، وعلى الأغلب مدخن لصفار أسنانه، وسواد أطراف أصابعه، الوسطى والسبابة، وفوق هذا كله كان أصلع. باختصار، لو كان لمرضه العضال هيئة، فإنها بكل تأكيد ستكون كهيئة هذا الطبيب.
قال له الطبيب " نحن في عام 2050، الطب لن يتطور أكثر من ذلك. فلا تجزع". أراد نجيب أن يصرخ في وجهه، فهو لا محاله ميت بعد شهور، ولكنه حاول تحاشي الضجة التي ستثيرها زوجته حين تنتحب وتلطم. فاكتفى بتعديل جاكيته البني الرث، وقال "الله كريم"، وخرج هو وعفاف.
في المصعد، صعدت معهم امرأة في حالة مخاض. كان نجيب يتحاشى هذه الأمور، حتى أنه لم يكن موجوداً عندما ولدت له عفاف أبناءه الأربعة. يا لسخافة الصدف! ها هو الآن محبوس مع امرأة غريبة تتوجع. لَم يعلم لِمَ كان يتحاشى هذه الأمور، هل كان يخاف البدايات. هل تتلازم البداية مع نهاية شيء ما في هذا العالم. هل كان يخاف الألم؟ أم صراخ البداية؟ ولم علينا أن نتألم حتى نبدأ من جديد، أو حتى من اللاشيء. وكيف اجتمع موته وحياة هذا الطفل في هذا المكان الضيق. هل سيتألم هو حين يموت كما تتألم هذه لأنها ستلد؟
أحس نجيب بأن كل ألم في بطنه هو، وبعد ثوانٍ اختصرت عمره كله انفتح الباب فكان الافراج.
كان الممر المؤدي إلى مخرج المستشفى طويلاً جداً، كريه الرائحة، أبيضاً كالنهاية. الأضواء كانت تميل إلى الخضرة التي تعمي البصر والبصيرة معاً. كان يمشي مسرعاً، أراد أن يخرج، أن يصل إلى البيت ليخبئ نفسه خلف خرائط الجغرافيا التي لم يزر أياً من الدول التي عليها يوماً، عَلّه يسافر من مرضه، ومن ألمه، ومن موته.
وصل إلى الشارع أمام المستشفى، كان الشارع خالياً من سيارات الأجرة بسبب المطر الغزير. وقف يتأمل زوجته تحت المطر، لم يكن يتأمل جمالها بطبيعة الحال، ولكنه تأمل تجاعيدها بعد مرور كل هذه السنين، الأكياس الدهنية كبيرها وصغيرها المتوزعة على جسدها. هي بعمره، أو ربما تصغره بسنتين. ولكنه أشفق على تركها بعد موته، وأشفق على أبناءه الاربعة.
ولكنه أشفق على نفسه أكثر، فبعد أربعين عاماً هي عمره، يموت وحيداً، دون أن يحقق حلمه،
معانقة النجوم..

هناك تعليق واحد:

  1. عزيزتي كلثم

    لا تفصلني عنك الا طاولة ..ورغم ذلك عاجزة عن التعبير .. ماذا أقول؟
    كيف اعبر ؟
    العبرة تخنقني لأجل نجيب... وأفكر في هذه العبارة
    "أنشر هذه القصة، ليس لإيماني بجودتها الأدبية، فمازالت أظنني لا أملك ذلك الأسلوب الأدبي الكافي لكتابة القصة، انما نشرتها لتكون بداية لشيء ما، ربما نشرت لي قصة أو رواية يوماً، وإن كنت ابنة فن المقالة الأولى والدائمة"

    يوما ما ستصبحين كاتبة عظيمة..وسيخلد العالم العربي ذكراك

    قصتك جميلة جدا
    وإلى الأمام يا كلثم

    ردحذف