الاثنين، مارس 14، 2011

سحر واسيني الأعرج


"يجب أن تعرفوا أني مُنهك ومنتهك وحزين ومتوحد مثل الكآبة"

كنت ومازلت أقول،، إنه سحر واسيني الأعرج، سحر في الكلمات، سحر في العالم الذي يأخذك إليه بحروفه، حتى تكاد تسمع الموسيقى، وتشم العطور. هو العالم الذي يُسكِنُك فيه واسيني فيَسكُنُك حتى بعد الانتهاء من الرواية. هو يقول هذا بنفسه على لسان بطل الرواية:

"للألفاظ سحر خاص، يأسر العمق إليه بقوة منقطعة النظير ويؤدي به إلى عمق أعماق الهاوية "

إنها رواية سيدة المقام...مراثي الجمعة الحزينة، للروائي الجزائري واسيني الأعرج، منذ أن وقعت عيني على أول كلمة من الرواية علمت بأنها من الروايات التي ستأخذني بعيداً.

"شيء ما تكسر في هذه المدينة بعد أن سقط من علو شاهق"

ومع مرور الصفحات علمت بأن هذه الرواية بالذات تحتاج للقلم، حين انتهيت من الرواية كانت معظم الصفحات قد ثنيت، وعُلِّم عليها، ليس لروعة الكلمات فحسب وإنما لجمال الأفكار كذلك. باختصار هو نص آسر. هو نص يتحدث بالكامل عن المدينة التي لم تفارق حوار شخصيات الرواية، حتى بت أتساءل من هي سيدة المقام؟ هل هي مريم (بطلة الرواية)؟ أم الجزائر؟
أحس بأني إن ذهبت إلى الجزائر فلن أتوه أبداً في شوارعها وأزقتها، لن أتوه عن مستشفى مصطفى باشا، ولا عن جسر تليمي ولا عن البحر الذي كان حاضراً في كثير من مشاهد الرواية، وبالتأكيد لن أتوه عن ساحة مدرسة الفنون الجميلة ولا صالة المسرح الوطني التي عَرَضت مريم على خشبتها آخر رقصة لها قبل أن تموت بسبب الرصاصة "الوطنية".
اهتم واسيني بالجمال في هذا النص، فطوال قراءتي وأنا أسمع مع أبطال الرواية مقطوعة موسيقية ما، أو أهازيج جزائرية شعبية أو موشحاً أندلسياً أو حتى فيروز.
كنت أرى مع الأبطال اللوحات التي عُلّقت على الحيطان। كنت أرى الجزائر كيف كانت وكيف أصبحت، ألوان البنايات، الأبواب، حتى لون السماء والبحر، حتى أنني بحثت عن الأسماء التي ذُكرت في الرواية لشعراء وفناننين تشكيليين وموسقيين وأدباء عرب وعالميين، أحسست بأني بعد هذا النص ازددت جمالاً.
===
مريم راقصة البالية ومحمد أستاذ الفنون الجميلة، هموم المرأة وهموم المثقف، في مدينة نسيت جمالها وأبناءها و حتى شهدائها.


"صباح الخجل يا بلاداً تنسى أحبتها وشهداءها، في الصباح تقرأ على أرواحهم الفاتحة وفي المساء تحاكمهم"


مريم،،التي استفتح واسيني روايته بوصفها:

"في البدء كنت وحدك وكانت الزرقة والماء
إليكَ أيها البحر المنسي في جبروت عزلتك الكبيرة
إليكِ مريم، يا زهرة الأوركيدا ومرثية الغريب
يا سيدة المقام والمستحيلات كلها"


راقصة البالية التي أحبت الحياة حتى الموت!! التي عانت مثل كل النساء في بلادنا، الزواج لأجل الهروب،، الوحشية من زوجها ومن المجتمع ووحشية النظام الذي رآها راقصه وقبل ذلك امرأة ليس لها إلا البيت، ولكنها كانت مجنونه "هبيله" كما كانت تسمي نفسها،، كانت تقول لمحمد : "لنا كل الموت لننام"، عاشت مع رصاصة في رأسها، كانت تحمل ذاكرة الوطن في رأسها ،كانت أعماقها تموت وتتهاوى ولكنها أصرت على الحياة وأن تكون سعيدة فيها وبها.شخصية أحزنتني، فمع كل قوتها، كانت الظروف دائماً ما تكسرها، دائماً ما تغلبها.
"أنت تراني وسط هذا الفراش الذي أكرهه قالت مريم بمسحة من الحزن، أشعر بالدوار في كل لحظة. لقد صرت أقل من نصف انسان لا أتحرك مطلقاً، إني أشم رائحة الموت. مصرة على الحياة لكن بأي سلاح؟"


وصفها محمد بطل الرواية فقال:

"عينان خضراوان، ووجة خمري..
مناوشة في كل شيء، ورائعة حتى فالحماقات"
"أيمكن أن يكون المرء مدهشاً إلى هذه الدرجة؟ وجميلاً بكل ها العمق!
أيعقل أن تمتلك عيون البشرية كل هذه الروعة الغجرية؟!"

محمد، الأستاذ الجامعي الذي رمى به حراس النوايا في المزابل، الذي أفنى عمره حباً لهذا الوطن، ابن الشهيد. أحب مريم وتألم لفقدها كما تألم لفقد هذه المدينه.

"في أعماقي تأسفت كثيراً على استشهاد والدي وعلى تغربي إلى ايطاليا للدراسة، وعلى مريم التي تحملت رصاصة، جاءت بهؤلاء الأقوام، بزمر حراس النوايا"

المثقف الذي يعاني في أوطاننا يحدث نفسه في لحظة ضعف فيقول:

"بربك أنت أستاذ جامعي؟! وكاتب؟ وعاشق للفن الكلاسيكي؟ يا رجل يكفي من النكت. أنت لا شيء في هذا الفضاء المؤكسد. حراس النوايا كانوا محقين عندما قالوا لك يكفي من الفستي (الكذب). أستاذ الزفت. لا شيء فيك يثبت هويتك التي لم يسأل عنها حراس النوايا. ما معنى الهوية في وطن ليس لك."

وشخصيات كثيره عشنا معها ألم المعاناة والفقد والأسى، وربما الحنين.

تدور أحداث هذه الرواية في بداية التسعينات، الوضع السياسي في الجزائر كان حاضراً ولم يغب أبداً،تأخذك الرواية إلى ما لا يصل إلى مسامع الناس، إلى الأحاديث وراء الأبواب المغلقة، إلى ملامح الوجوه التي تبدلت، إلى شروخ الأبنية العتيقة، إلى لون البحر وقد حال إلى لون الرماد،إلى ما لا يراه إلا من قاسى وعانى.
أسماهم واسيني "حراس النوايا"، الذين تحولت المدينة على يدهم إلى تجارة ومحظورات وجمعيات خيرية.تآكل جمال المدينة وتآكلت معها قلوب الناس وأروحهم.
من نَصَّبهم حراساً على نوايا الناس وأحلامهم وآمالهم؟! حراسٌ لا ذاكرة لهم إلا ما أرادوا تذكره.

"يبدو أن التخريب المتقن للمدينة، شرع فيه منذ زمن بعيد، كم هو قصير هذا الزمن وذاكرته لا ترى أكثر من حاضرها".


"مدينتنا تسرق مثلما تسرق النجوم. لا شيئ تغير في هذه المدينة الحزينة التي تموت يومياً. تموت مثل ريف قديم وتتحول إلى قرية صغيرة. تتهاوى مثل الورق اليابس. كل شيء فيها بدأ يفقد معناه، الشوارع. السيارات. الناس..."


"ذهب الزمن الذي كان المرء فيه يأكل قطعة خبز صغيرة سمراء وينام، ويأكل اليوم الواحد فيهم مدينة بكاملها ويطلب المزيد!"


"الرداءة صارت قانوناً!"


"الثقافة ميتة أو يقتلون الآن جثتها. البطالة. السكن. الندرة في كل شيء إلا الولادات، الوجوه المستورده التي تعلمنا ديننا وأخلاقنا وكأننا فجأة نكتشف الإسلام، ونكتشف أننا صُيّع وبدون أخلاق!"

====
كانت يد واسيني، كيد عازف العود الذي يضرب على الأوتار فتكون الموسيقى، الفرق أن واسيني يضرب على أوتار الروح.فالحوار كان قربياً وصادقاً، أذكر أني رددت بعضاً منه في نفسي!
أني شعرت بهذا الشعور من قبل ولكن الحرف ظل عاجزاً عن التعبير.
هل من الممكن أن يحمل قلبي كل هذه الغصة وهذا الحزن؟! حقيقة لست أعلم،ما أعلمه هو أنه استطاع أن يبكيني، أن يشعرني بالخوف، والانكسار والضعف،استطاع أن يشعرني بالأمل وبكثير من خيبات الأمل كذلك، استطاع أن يثير كل الأسئلة التي لا إجابة لها.

"لماذا يحضر الموت، كلما تعلق الأمر بالحياة؟"

"لماذا لا تستثار الألفة وحنين الفقدان إلا لحظة الافتقاد فقط؟"

"هل بإمكاني الآن أن أعد الأزمنة المنقرضة على هوامش هذه الأفراح المقتولة؟! يحزنني الحنين وتقلقني برودة الأمكنة الصامته وطقوس المدينة التي تذهب ولا تعود"

"هل تسمعين الأشياء الثمينة التي تتكسر الآن بحزن كبير في الداخل؟ هل تسمعين الخراب الذي ينشب أظافره في الداخل؟؟ أوف يا سيدي، لاجديد! لقد تعودنا على الكسور"

يقول محمد فأوافقه بغصة:
"أعرف أن الفنان في هذا البلد عليه ان يموت ليكون، بدل أن يعمّق عشقه للحياة. وإذا لم يمت، يُقتل. أعرف كل هذا ولكن الله غالب"

جُمَل كثيرة عزفت أعذب النغمات وأجملها:

"لقد تعبت! تعبت من قراءة الشوق والنسيان والأحلام"

"إننا نموت بشكل متجزئ! يموت الفرح، تموت الذاكرة، تنحني الأشواق، ندخل في الرتابة، ثم ننسحب،نشيخ بسرعة، وبشكل مذهل شيء ما يتآكل يومياً في داخلنا ولا نشعر"
"صرنا نتآلف مع الخيبة بسهولة"
أحسست بأن هذا النص أراد أن يحتفل بالحزن، بالغربة، بالغصة! هو ألم الكتابة، الرغبة التي لا نفهمها في تحويل بركان المشاعر إلى حروف.

"يجب أن نحزن حتى نملك جرأة القول"

"تمنيت أن يكون لدي زمن وكثافة من الألم لكتابة هذه الفاجعة، لكن الانهيار الداخلي كان مذهلاً يتوازى مع حالات الجنون"


"كتاباتي... هل هناك شيء أهم من الكتابة، من تحويل الكلمات الضائعة، الجافة إلى كائنات حية؟ ولكن في بلادنا مسكينٌ الكاتب يصرخ في وادٍ خالٍ"


"الأوراق.. الأوراق.. الأوراق.. دائماً الأوراق.. عفواً مريم لقد كنت أحبك وعندما أكتب أشعر بخجل كبير لأنني أتعرى أمام بياض الورقة وصفائها مثلما أتعرى في حضرتك"
=====

سيدة المقام...مراثي الجمعة الحزينة، رواية ستظل في الذاكرة طويلاً، كلما نظرت من حولي، كلما نظرت إلى نفسي، ففي كل واحدة منّا تعيش مريم، وفي كل مثقف في أوطاننا مات محمد!!


"كلنا يحمل في الدماغ رصاصات، بل عيارات مدفعية، نحمل حزناً بثقل القرون التي مرت بجفاف مدقع، لم نرث منها إلا كيف نموت، ووضعنا كل شيء له علاقه بالحياة في المزابل ومسخنا به وسخ الشوارع. نحمل معكِ حتماً أهوال الجمعة الحزينة وجنازاته السرية وأشلاء ناسه. الفارق الوحيد أن الرصاصة حقيقة في دماغك تذكرك بوجودها كلما نسيتها، بينما يحدث أن ننسى ذاكرتنا وننغمس في أحزان التفاهات اليومية"


في النهاية، قد يترسب في الذاكرة شيء من الفرح، وكثير من الحزن، ولكن الأمل يبقى حاضراً كالنور في الأرواح، ولن يتمكن أحد من انتزاعه، حتى حراس النوايا.
"هو العمر كله يمضي في عشقك
عمرٌ من الحنين وبعض السنوات..
عمرٌ من الفرحة والحنين وبعض السنوات..
عمر من الحماقة وبعض السنوات.."

هناك تعليقان (2):

  1. شوقتيني لقراءتها .. وصفك للرواية ذكرني بشعوري عندما انتهيت من قراءة ذاكرة الجسد .. احساسك العالي بالكلمات والمشاعر والاماكن يضيف إلى النص روعة فوق روعته :)
    شكرا لتسهيل عملية الاختيار هههه :)

    ردحذف
  2. محتارة جدا..كيف تكون كل عبارة اثارت اهتمامك..هي نفس العبارات التي علمت عليها!!!

    بوركت..

    ردحذف