ربما كانت الكتابة جزءاً من الوهم الذي يحيط بنا، حين يتحوّل كل ما يجول في البال الغير ملموس إلى حبرٍ، وحرفٍ، وورقةٍ، وربما كتاب. ربما كانت الموسيقى لعنةً من لعنات زمنٍ مثقلٍ بالهراء والضجة والتفاهة. ولكنني أكتب وأسمع الموسيقى على أيّة حال. فيروز تحديداً، "راجعين". مازلت أسمع هذه الأغنية فينتابني مسٌّ من الحنين الأول، الخجل الأول، حين سمعتها معه. الموسيقى، الكلمات، والغرور الذي ينتابه حين تقول فيروز "مغرور يا هوى". كان حقاً مغروراً، ولكنه كان كما قالت "وردة على سور"، سور عمري. كان السر في كلمة "راجعين"، ولكنه لم يرجع إلى الآن، ولا نحن رجعنا معاً، ولم أمشِ معه تحت المطر، ولم نَتُه في الأزقة القديمة معاً.
أنا لم أعد أكتب عن القضايا الكبرى، ولا عن
الشأن العام، ولا عن المال العام، ولا حتى عن دورات المياه العامة. لم يعد القلم
يطاوع، ولم يعد في الروح السليبة متسّع. حين علمت أن شأني الخاص مهملاً. أن أخسر
أموراً كثيرة عزيزة عليّ، ولا يكترث العالم بهذه الخسارة. تلك هي الفاجعة.
ربما أكون برجوازية أو ساذجة أو أنانية،
فالعالم كما يقول غسّان " يسحق العدل بحقارة كل يوم"، ولكنها حياتي على
أيّة حال، أليس لهذا فقط وزنٌ يُذكر. حقيقة
أنَّ أحداً لا يكترث بأيّ شيء. لا بالدم ولا بالأرض ولا بالروح ولا بأيّ شيء.
أنا لم تعد تعنيني الوجوه ولا الأقنعة ولا
هذه الأروح المتكدسة فوق الأجساد المشوهة والاصطناعية منها. ألغيت هذا العالم من
حساباتي فأنا لم أكن في حساباته يوماً.
إلى الآن لا أعلم لم أكتب ما أكتب، ولا أعلم
إن كان سيقرأه أحدٌ أم لا. ولا أعلم هل سيأتي يومٌ أعود للاهتمام فيه بالقضايا
الكبرى والصغرى وحتى القطط النافقة في الشوارع أم لا. لا أعلم إن كنت سأراه يوماً
على الرغم من كل الجغرافيا والتاريخ وعلوم الاجتماع، وجميع المقررات المدرسيّة التي
وقفت بيننا حاجزاً.
أمّا أنا الآن، فأجلس في نفس الزاوية من
غرفتي، أسمع نفس الأغنية، دون إضاءة الكهرباء الكاذبة. أتأمّل يدي وملامحي، وهذا
الفراغ. متناسية كل الجنون خارج الباب والنافذة.
راجعين ؟ على دار الهوى ؟ لا أظن أن العالم
سيحقق لنا هذا الحلم يوماً !