الخميس، ديسمبر 08، 2011

بركان روح.. قصة قصيرة (ربما)


نَظَرَت من النافذة علّها تجد بصيص أمل. كانت تنظر إلى السيارات المسرعة، والشوارع التي بهت لونها، والمارّين أصحاب الملامح الهادئة، بالرغم من أنهم يلعنون الشمس في قلوبهم. لم يختلف هذا المشهد يوماً. يتكرر كل يوم، حتى تشابهت الأيام عليها.
كانت تستمع للموشحات الصوفية. هدوء الموسيقى وحرارة وصف ابن الفارض. تنافض غريب أحست به، شعور كالرياح الهادرة التي يستقر دورانها في الكهوف الخاوية. كيف لها أن تشعر بقربها من صوفي مات منذ مئات السنين، وتكون غريبة تماماً عن مشهد النافذة الممل هذا.
هو الفراغ يحاصرها في أركان الغرفة التي كانت بها، أو بالأحرى بكل الغرف التي سكنتها من قبل. الأماكن ما عادت لها هذه الحميمية، ولا ذلك الدفء. ملّت الأخبار، والأصدقاء، والأهل، والتكنولوجيا وكل شيء. لم تعد للوجوه ملامح ولا ألوان. كل شيء أضحى متشابهاً بالنسبة لها. حتى الأصوات، والملابس، والورود والشجر والطيور والكتب، كل شيء. كل شيء حال إلى شيء واحد قبيح ومحايد وغريب، لا يعنيها على الإطلاق.
الهواء البارد المُجَامِل لم يعد يعنيها كذلك، كأنه يُقبِل على وجهها ساخراً من وجوده هو والشمس الحارة في فضاء واحد.

- "حتى الطقس متناقض هنا، شتاء بهواء بارد، وشمسٌ حارقه!"


صوت الموسيقى يرتفع وينخفض، "عذّب بما شئت".

- "كيف للعذاب أن يكون لذيذاً إلى هذا الحد حتى يسمح الشاعر لمن يخاطبه بالتفنن بطرق العذاب، إلا الابتعاد عنه ؟!"


الهواء يزداد بروده، احتضنت نفسها، ولملمت شعرها القصير خلف أذنها وأغلقت النافذة. استلقت على سريرها الأبيض. كانت ومازالت تحب البياض في كل شيء. هل لأنه لون البداية، بداية كل شيء؟ أم لأنه لون النهاية، حيث الحقيقة المطلقة.
كان سقف الغرفة ينظر إليها، كان شاهداً على كل شيء. لحظات الحب، والبكاء، والجنون، واللهفة. حتى أنها أحست بأن هذا السقف ينظر إليها بأنفة وتكبّر، لأنه يعرف كل التفاصيل، ويتذكرها جيداً. يعرف كل ما تخفيه هي عن أعين الناس، وربما حتى عن نفسها. وحده يعلم كل شيء. وحده يضيء الغرفة، وحده يبقى نظيفاً لابتعاده عن الأيدي والأرجل معاً. وحده يبقى عالياً، وحده البياض يمتد عليه دون أن يتغيّر أو بتبدّل.
أما هي فكانت تكره هذا السقف اللعين، لأنه كان يحجب عنها السماء. كانت تحلم أن تستلقي وهي تشاهد النجوم والقمر. ولكن هذا السقف كان حداً بينها وبين السماء.

- "من اخترع الأسقف لا بد أن يكون مختلاً أو مريضاً. لأن البيوت تعكس أرواح ساكنيها. لم يكن للبدو سقف إلا السماء، ولم يكن لأهل البحر سقف إلا خوص النخيل المتشابك.
حتى الجدران باتت باهته. ليس لها ذلك الرونق الذي اعتدته. لم تعد تتحدث عن ساكنيها كما كانت تفعل من قبل. لم تعد دافئة كما كانت من قبل. ربما أصبحت باردة لأن من يسكن خلفها لم يعد يعطيها من الدفء الكافي لتكون هي دافئة بدورها. الدفء أمر يأتي من مواقد القلوب، من تلك البراكين المنسية خلف أضلع البشر. أما الحجر، فلن يكون في النهاية إلا حجراً محايداً، لا وجه له."

صَمَتَ المسجل قليلاً. انتهت قصيدة ابن الفارض بـ "تآلفا بين الحان من الهزج". رفعت كفها وهي مستلقية وأخذت تتأملها، وابتسمت.

- "كم هو رقيق هذا الشاعر. لابد أنه كان يعيش في جنة لم يعرفها أحد قبله. يريد العذاب، ولكنه في النهاية يتآلف بين ألحان من الهزج."


اقترب بعد ذلك صوت فيروز، "رجِعت في المساء كالقمر المهاجر". علاقتها مع فيروز، علاقة معقدة جداً. كانت تحبها بقدر ما تكرهها. كانت تحتاج لصوتها كل صباح لتتصالح مع القبح المحيط بها، أصوات البناء، والسيارات، ومواء القطط، ومناظر الشوارع المهترئة وأنابيب المجاري المعطوبة. صوت فيروز كان يحملها بعيداً، إلى أمكنة ما عرفتها من قبل.
ومع هذا، كانت تكرهها، كانت تكره صُوَرَها، وغنجها، وقوتها، وحزنها. كانت تغار منها. من أحبته كان يعشق فيروز. كان يسمعها، ويعيد أغانيها، كأنها طقس من طقوس العشق المقدسة.
كانت فيروز تشاركها أشياء كثيرة وحميمة. ذلك الحنين الذي يحمله صوتها كان يجتاحها كالموج الغاضب. أغانيها تحمل ذكريات، وتاريخاَ طويلاً جداً.

- "الأغاني والموسيقى تأرّشف ذاكرة الإنسان بشكل يعتمد على الحنين، والتفاصيل التافهة."

هذه الأغنية بالذات، تُذَكِرها باليوم الذي قررت أن ترسل له رسالة، بعد عام من الانقطاع. لم تعلم إن كانت تحبه أم لا، ولكنها كانت تحن لحروفه، ولرواياته التي يقرأها، وللحزن الذي ما فارق عينيه. كتبت الرسالة، وحفظتها في ملف إلكتروني، ليتولاّها النسيان بعد ذلك. لم ترسل الرسالة أبداً، ولم يقرأها هو يوماً.

"سافرت البحار لم تأخذ السفينة.." كانت تتمنى في هذه اللحظة أن تسافر، تسافر مع الأشرعة التي لم تعرف الموانئ يوماً. أرادت أن تمسك مطرقة كبيرة تدمر بها هذه الجدران، وهذا السقف. أن تحرق كل الكتب التي تملأ المكتب والأرض والسرير والأدراج. أرادت أن تحرق مذكراتها وزهورها المجففة.
ولكنها لم تفعل أياً من ذلك. توقفت فيروز، وأغلقت هي المسجل. بدأت الشمس بالمغيب. لون الشفق يدخل من النافذة وينعكس على مكتبتها. بدأ البرد يزداد في أرجاء الغرفة. ومع كل هذا الصراخ العالي في صدرها، إلا أن السكون كان يصم آذان المكان.
أحست بأنها غريبة، منفية، مهدورة، مستهلكة حد الاهتراء. ملقية على قارعة الأمل.

- "ستغيب الشمس قريباً، وستغيب معها أشياء كثيرة، النوم وحده ليس قادراً على مسحها من الذاكرة".


بدأت جذور الظلام تزحف ببطيء إلى الغرفة. أضواء المنازل المجاورة بدأت تقتحم غرفتها من دون استئذان.

- "كم مر من الزمن حتى الآن؟ ساعة ؟ اثنتان؟ يوم؟ شهر؟ دهر، لا يهم."


المهم، أنها تعلم يقيناً بأنها ستخرج من حياتها التي يملؤها الوهم، وهي تعرف حقيقة واحدة فقط، أن التناقض هو الرفيق الوحيد الذي رافقها طوال عمرها. الشمس والهواء البارد، الغربة والوطن، العذاب واللذة، السقف والسماء، الكراهية والحب، الظلام وهذه الأضواء التي تغتال هدوء الليل.


** الصورة من موقع:www.katherinedutiel.com