
نعم، إنه فن. والفن يعني الإبداع، وقبل الإبداع الحرية. وكيف لمثلي ألّا تعرف ذلك، وأنا من درست تفاصيل الحداثة وما بعدها في الأدب الانجليزي.
إذاً ما الذي جعل الجميع يغضب عندما تم عرض لوحة لأثداء امرأة حلوب في قلب جامعه "فرجينيا"؟، أنا أقولها لكم، الذي أغضبنا هو الوقاحة.! الوقاحة في العرض، الوقاحة في التعاطي مع أفراد المجتمع القطري، طلاباً ومجتمعاً، المجتمع الذي تتغنى الجامعة بأنها تقدم له خدمات وورش تعليمية. الوقاحة في إحضار رسّامة تعرض ما يحلو لها من لوحات، وفوق ذلك يتم دفع مصاريف رحلتها كاملة إلى وطننا السعيد.
لقد تم انزال اللوحة وانتهى أمرها بعد أن احتج طلّاب الجامعة –لهم مني تحية حارة-، وانتهى الموضوع بسلام (أتمنى). ولكنني ما زلت أتساءل، وأتعجب من تفاصيل الحادثة.
ما الذي أرادوه من عرض هذه اللوحة في الأساس؟ وكيف تمكن لإدارة الجامعة أن ترد على طلابها المحتجين بأنها تستند إلى قانون رقم 19 في الأمم المتحدة الذي ينص على حق الرأي والتعبير! (وهو ما أضحكني حد البكاء). بل وزادوا على ذلك بالقول بأنهم يريدون أن يكون الطلاب قادرين على التعايش مع "المجتمع العالمي" فيما بعد. وهل صحيح ما تناقلته الألسن في أروقة الجامعة بأن هذا النوع من الفن هو الذي سيقود بمجتمعنا نحو التغيير والتطوّر؟
كيف لأثداء امرأة أن تعني التحضّر والمدنية؟ العري بطبيعة الحال لا يعني التحضر أبداً ، وهذه اللوحة وغيرها لن تقود بمجتمع –أي مجتمع- للتغيير مالم تكن الرغبة نابعة من المجتمع ذاته. جميعنا يعلم أن بعض المجتمعات البدائية أفرادها كانوا عراه، فهل دلّ ذلك على تحضرهم أو تمدنهم؟ أبداً، وخير دليل على ذلك بعض القبائل في افريقيا، التي ما يزال أهلها عراه في الأدغال.
ثم إنني أتساءل، من الذي أقنع هؤلاء الأجانب أنهم آتون هنا لتغيير المجتمع؟ وكيف يترك لهم الحبل على الغارب لينشروا ما يريدون متى ما شاءوا وكيفما شاءوا؟ استغرب كثيراً من الإشارات الخضراء التي تُعطى لهم، خصوصاً حينما يكون تواجدهم في البلد محدداً بزمن العقد، ثم ينصرفون غير مأسوفٍ عليهم.
إن التعليم هو رسالة خالدة طبعاً، وهو سم قاتل بكل تأكيد متى أُريد له ذلك. كان من الممكن أن يتم تدريس مادة الفن الحديث أو ما بعد الحداثي في الفصول الدراسية لأسباب تعليمية بحته. إن من دَرَس التاريخ والفن والأدب وحتى علم الاجتماع والفلسفة، يعلم بأن الفن في الغرب تغيّر وتطور بتطور النظريات الفلسفية التي أثرت على المجتمعات بتعاقب الأحقاب التاريخية، منذ عصر النهضة وحتى يومنا هذا. إذا فالفن "الحداثي وما بعده" ما هو إلا نتاج وانعكاس لمجتمع غربي مرّت عليه الكثير من التغيرات الاجتماعية والمدراس الفكرية.
أن يُلصق هذا الفن، بمجتمع كالمجتمع القطري الصغير عمراً مقارنة بالمجتمع الغربي، والذي تختلف خلفيته الثقافية والتاريخية تماماً عنّا، فذلك دليل على وجود قصور رهيب في فهم الفن وأدواته لدى أرباب الفن في هذه الجامعة. إن أرادوا تدريس هذا الفن ليُدَرِسوا الطلاب الفلسفة التي جاءت بسببه، والعمق الذي يرتكز عليه، بهذا يستطيعون أن ينتجوا طلاَبا قادرين على "مواكبة المجتمع العالمي" كما يزعمون.
إن قصور الفهم الدائم والعشوائية، والصاق تجارب الغير التي تفوقنا بمراحل، لمجتمعنا الصغير، ستؤدي بالمجتمع إلى تغييرات كارثية، نراها أمامنا الآن، ولن ننتظر زمناً طويلاً . هذه الحرب الضروس التي تقاد ضد الهوية بدأت علاماتها تطفو على السطح كالسمك النافق.
ربما يقول قائل، هل تريدين أن يبقى المجتمع منغلقاً على حاله؟ أرد وعيني في عينه، لا! طبعا لا! لسنا نعيش في مجتمع اليوتوبيا، نحن بكل تأكيد بحاجة للإصلاح، ولكن بأدوات مختلفة ليس لها علاقة بتمثال ديفد ولا بعيون الموناليزا. لأننا ببساطة لنا تجربة تاريخية وثقافية مختلفة تماماً، وأي طالب في سنة أولى علم اجتماع يعرف هذه الحقيقة كما يعرف الشمس!
لذلك أقول، لو عرف كل واحدٍ منا ومن الأجانب وظيفته في هذه الحياة، لما واجهنا هذه القصص التي تُضحِك الانسان غماً! وكما يقول الرائع مريد البرغوثي : "الشيء الأعدل توزيعاً على وجه البسيطة هي الحماقة"، وأنا أزيد عليه، والوقاحة كذلك!