الأربعاء، مارس 13، 2013

قوالب الأسمنت


مستلقيةٌ على السرير بعد يومٍ طويل ومرهِق. كل جزء في جسدي يؤلمني، كل جزء يصرخ للسماء من شدة الألم. لم أفتح التكييف كسلاً. بدأت أسمع أصواتاً كان يصمها هدير المكيف. صوت صراخ الجيران، أصوات الطيور، حفيف الريح، أذان العصر، شِجار أطفال الحي. كل هذه الأصوات كان يصمها صوتٌ واحد استدعته الحياة “الحديثة”، وكأن “الحياة الحديثة” تستدعي إلغاء كل ما له علاقة بالحياة، الحياة الطبيعية والحقيقية.

اليوم، يكمل عمّال البناء في البيت الذي يقابل نافذتي شهرهم السادس، ستة أشهر من البناء المتواصل. في البداية كان صوت البولدوزات يصيبنا كل فجرٍ بالهلع. كان الصوت عالياً لدرجة أن العصافير ما عادت تبني أعشاشها عند نافذتي. اليوم بدأت الأصوات تختفي، إلا أن هذا البيت الإسمنتي البشع بدأ يسد الأفق عنّي. أرى الآن عاملاً متعلقاً فوق السطح. رجل في منتصف الأربعين كما يبدو (أو لعله أصغر من ذلك) من شرق آسيا، يلبس قميصاً أزرقاً خفيفاً وواسعاً يميل مع الرياح الباردة، رأسه مربوط بشماغٍ أحمر، ويبدو على ملامحه التعب. ولكنه مع ذلك يعمل بجد.

في بلد الإسمنت هذا غابت كل التفاصيل، أذكر أن الوضع في فترة التسعينات كان أكثر هدوءاً من أيامنا هذه. كانت الأحياء ببساطتها لا تزال موجودة، كانت العلاقات الاجتماعية أكثر هدوءاً ولطفاً، كانت أسطح المنازل متقاربة وأبوبها مفتوحة على الدوام. ربما كان الحنين هو الذي يجمّل الأشياء في عيوني. ولكن الواقع المتجرّد من كل المشاعر يقول ذلك. العولمة والرأسمالية اللذان أكلا كل شيء هنا يقولان ذلك. قد غاب الجمال عن المدينة، وحلّ محلها قوالب صمّاء من الإسمنت وقلوب صماء من الإسمنت كذلك. الكل يركض وراء شيء، الكل هنا في سباق لا نهاية له. الكل هنا لبس القناع، بل أقنعة. ما عاد للبشر والأشياء معنى حقيقي. بالنسبة لي، أراني أصدّق عرق هذا العامل الذي يعمل تحت هذه الظروف المناخيّة أكثر من كل هذا الزيف. عرقه الذي يبلل قميصه فيزداد شعوره بالبرد مع هذا الهواء البارد. عرقه الذي لولا حاجته لما تغرّب عن أهله وما عمل لساعات طوال من أجل راتب زهيد. أراه الآن وقد ترك المطرقة وأخذ يحتضن نفسه أملاً في الدفء.

أليس من المضحك أن تكون أقليّة في بلدك؟ أليس من المضحك أن كل هذا الإسمنت، يبنيه ويسكنه كل أبناء العالم إلا نحن؟ أليس من المفجع أننا نحن الأقلية أصبحنا أكثر جشعاُ وتفككاً. نحن لم تفارقنا الجاهلية أبداً وإن ألبسنا هذا المجتمع ثياب السلفيّة والحنبلية وكل مذاهب الإسلام مجتمعه. كل شيء فينا هنا لا يشبه ما ندّعيه. تماماً كهذا الإسمنت الذي نسمّيه بيتاً وما هو إلا سجن كبير. غيّر شكل الأرض وقتل الطير والشجر، ثم أقفل الأبواب على عادات وتقاليد وأعراف وشيء من “ريحة” الدين بتأويلات لا تمت للدين ذاته بصلة.
أين البحر؟ أين النخيل؟ وأين أشجار الصحراء؟ أين البشر؟ أكتب ما أكتب وأنا أعلم أن ما أكتبه ربما يكون لأخر جيل رأى الخليج كما هو، وسمع مِن مَن عاش وعاصر زمن الؤلؤ ومن ثم النفط. حقيقة لست خائفة من شيء، وأعلم أن القادم لن يكون سهلاً، وسعيدة أنّي ما أنجبت أطفالاً إلى هذه الدنيا.

قد بدأت الشمس بالمغيب، أرى العامل الآن وقد جلس على الطوب وقد بدأ بمسح عرق وجهه بشماغه الأحمر. كلانا متعب، كلانا ما عاد قادراً على الحركة. كلانا ينظر الآن إلى المغيب. في هذه اللحظة شعرت بكميّة الشبه العجيب الذي بيننا. لا راحة لمن بنى قوالب الإسمنت ولا لمن سكن فيها. لا راحة لم يعيش عمره مهدوراً في عبثيّة واقعٍ أخذ منّا أجمل أيام العمر، ليلقى بنا في مقابر الحياة، ومن بعدها مقابر الموت.

الثلاثاء، سبتمبر 04، 2012

هذيان خيال، وألم واقع



 


ربما كانت الكتابة جزءاً من الوهم الذي يحيط بنا، حين يتحوّل كل ما يجول في البال الغير ملموس إلى حبرٍ، وحرفٍ، وورقةٍ، وربما كتاب. ربما كانت الموسيقى لعنةً من لعنات زمنٍ مثقلٍ بالهراء والضجة والتفاهة. ولكنني أكتب وأسمع الموسيقى على أيّة حال. فيروز تحديداً، "راجعين". مازلت أسمع هذه الأغنية فينتابني مسٌّ من الحنين الأول، الخجل الأول، حين سمعتها معه. الموسيقى، الكلمات، والغرور الذي ينتابه حين تقول فيروز "مغرور يا هوى". كان حقاً مغروراً، ولكنه كان كما قالت "وردة على سور"، سور عمري. كان السر في كلمة "راجعين"، ولكنه لم يرجع إلى الآن، ولا نحن رجعنا معاً، ولم أمشِ معه تحت المطر، ولم نَتُه في الأزقة القديمة معاً.
أنا لم أعد أكتب عن القضايا الكبرى، ولا عن الشأن العام، ولا عن المال العام، ولا حتى عن دورات المياه العامة. لم يعد القلم يطاوع، ولم يعد في الروح السليبة متسّع. حين علمت أن شأني الخاص مهملاً. أن أخسر أموراً كثيرة عزيزة عليّ، ولا يكترث العالم بهذه الخسارة. تلك هي الفاجعة.
ربما أكون برجوازية أو ساذجة أو أنانية، فالعالم كما يقول غسّان " يسحق العدل بحقارة كل يوم"، ولكنها حياتي على أيّة حال، أليس لهذا فقط وزنٌ يُذكر.  حقيقة أنَّ أحداً لا يكترث بأيّ شيء. لا بالدم ولا بالأرض ولا بالروح ولا بأيّ شيء.
أنا لم تعد تعنيني الوجوه ولا الأقنعة ولا هذه الأروح المتكدسة فوق الأجساد المشوهة والاصطناعية منها. ألغيت هذا العالم من حساباتي فأنا لم أكن في حساباته يوماً.
إلى الآن لا أعلم لم أكتب ما أكتب، ولا أعلم إن كان سيقرأه أحدٌ أم لا. ولا أعلم هل سيأتي يومٌ أعود للاهتمام فيه بالقضايا الكبرى والصغرى وحتى القطط النافقة في الشوارع أم لا. لا أعلم إن كنت سأراه يوماً على الرغم من كل الجغرافيا والتاريخ وعلوم الاجتماع، وجميع المقررات المدرسيّة التي وقفت بيننا حاجزاً.
أمّا أنا الآن، فأجلس في نفس الزاوية من غرفتي، أسمع نفس الأغنية، دون إضاءة الكهرباء الكاذبة. أتأمّل يدي وملامحي، وهذا الفراغ. متناسية كل الجنون خارج الباب والنافذة.
راجعين ؟ على دار الهوى ؟ لا أظن أن العالم سيحقق لنا هذا الحلم يوماً !